المعتضد بالله : أحمد أبو العباس ابن ولي العهد الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ولد في ذي القعدة سنة اثنتين و أربعين و مائتين
و قال الصولي : في ربيع الأول سنة ثلاث و أربعين و مائتين و أمه أم ولد اسمها صواب و قيل : حرز و قيل ضرار و بويع له رجب سنة تسع و سبعين و مائتين بعد عمه المعتمد و كان ملكا شجاعا مهيبا ظاهر الجبروت وافر العقل شديد الوطأة من أفراد خلفاء بني العباس و كان يقدم على الأسد وحده لشجاعته و كان قليل الرحمة : إذا غضب على قائد أمر بأن يلقى في حفيره و يطم عليه و كان ذا سياسة عظيمة
قال عبد الله بي حمدون : خرج المعتضد يتصيد فنزل إلى جانب مقثأة ـ و أنا معه ـ فصاح الناطور فقال : علي به فأحضر فسأله فقال : ثلاثة غلمان نزلوا المقثأة فأخربوها فجيء بهم فضربت أعناقهم من الغد المقثأة ثم كلمني بعد مدة فقال : أصدقني فيما ينكر علي الناس قلت : الدماء قال : و الله ما سفكت دما حراما منذ وليت قلت أحمد بن الطيب ؟ قال : دعاني إلى الإلحاد قلت : فالثلاثة الذين نزلوا المقثأة ؟ قال : و الله ما قتلتهم و إنما قتلت لصوصا قد قتلوا و أوهمت أنهم هم
و قال إسماعيل القاضي : دخلت على المعتضد و على رأسه أحداث صباح الوجوه روم فنظرت إليهم فلما أردت القيام قال لي : أيها القاضي و الله ما حللت سراويلي على حرام قط
و دخلت مرة فدفع إلي كتابا فنظرت فيه فإذا هو قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء فقلت : مصنف هذا زنديق فقال : أمختلق ؟ قلت : لا و لكن من أباح المسكر لم يبح المتعة و من أباح المتعة لم يبح الغناء و ما من عالم إلا و له زله و من أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه فأمر بالكتاب فأحرق
و كان المعتضد شهما جلدا موصوفا بالرجلة قد لقي الحروب و عرف فضله فقام بالأمر أحسن قيام و هابه الناس و رهبوه أحسن رهبة و سكنت الفتن في أيامه لفرط هيبته
و كانت أيامه طيبة كثيرة الأمن و الرخاء
و كان قد أسقط المكوس و نشر العدل و رفع الظلم عن الرعية
و كان يسمى [ السفاح الثاني ] لأنه جدد ملك بني العباس و كان قد خلق و ضعف و كاد يزول و كان في اضطرب من وقت قتل المتوكل و في ذلك يقول ابن الرومي يمدحه :
( هنيئا بني العباس إن إمامكم ... إمام الهدى و البأس و الجود أحمد )
( كما بأبي العباس أنشئ ملككم ... كذا بأبي العباس أيضا يجدد )
( إمام يظل الأمس يعمل نحوه ... تلهف ملهوف و يشتاقه الغد )
و قال في ذلك ابن المعتز أيضا :
( أما ترى ملك بني هاشم ... عاد عزيزا بعدما ذللا )
( يا طالبا للملك كن مثله ... تستوجب الملك و إلا فلا )
و في أول سنة استخلف فيه منع الوارقين من بيع كتب الفلاسفة و ما شاكلها و منع القصاص و المنجمين من القعود في الطريق و صلى بالناس صلاة الأضحى فكبر في الأولى ستا و في الثانية واحدة و لم تسمع منه الخطبة
و في سنة ثمانين دخل داعي المهدي إلى القيروان و فشا أمره و وقع القتال بينه و بين صاحب إفريقية و صار أمره في زيادة
و فيها ورد كتاب من الدبيل أن القمر كسف في شوال و أن الدنيا أصبحت مظلمة إلى العصر فبهت ريح سوداء فدامت إلى ثلث الليل و أعقبها زلزلة عظيمة أذهبت عامة المدينة فكان عدة من أخرج من تحت الردم مائة ألف و خمسين ألفا
و في سنة إحدى و ثمانين فتحت مكورية في بلاد الروم
و فيها غارت مياه الري و طبرستان حتى بيع الماء ثلاثة أرطال بدرهم و قحط الناس و أكلوا الجيف
و فيها هدم المعتضد دار الندوة بمكة وصيرها مسجدا إلى جانب المسجد الحرام
و في سنة اثنتين و ثمانين أبطل ما يفعل في النيروز : من وقيد النيران و صب الماء على الناس و أزال سنة المجوس
و فيها زفت إليه قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون فدخل عليها في ربيع الأول و كان في جهازها أربعة آلاف تكة مجوهرة و عشر صناديق جوهر
و في سنة ثلاث و ثمانين كتب إلى الآفاق بأن يورث ذوو الأرحام و أن يبطل ديوان المواريث و كثر الدعاء للمعتضد
و في سنة أربع و ثمانين ظهرت بمصر حمرة عظيمة حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الرجل فيراه أحمر و كذا الحيطان فتضرع الناس بالدعاء إلى الله تعالى و كانت من العصر إلى الليل
قال ابن جرير : و فيها عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر فخوفه عبيد الله الوزير اضطراب العامة فلم يلتفت و كتب كتابا في ذلك ذكر فيه كثيرا من مناقب علي و مثالب معاوية فقال له القاضي يوسف : يا أمير المؤمنين أخاف الفتنة عند سماعه فقال : إن تحركت العامة وضعت السيف فيها قال : فما تصنع بالعلويين الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك ؟ و إذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت كانوا إليهم أميل فأمسك المعتضد عن ذلك
و في سنة خمس و ثمانين هبت ريح صفراء بالبصرة ثم صارت خضراء ثم صارت سوداء و امتدت في الأمصار و وقع عقبها برد زنة البردة مائة و خمسون درهما و قلعت الريح نحو خمسمائة نخلة و مطرت قرية حجارة سودا و بيضا
و في سنة ست و ثمانين ظهر بالبحرين أبو سعيد القرمطي و قويت شوكته ـ و هو أبو أبي طاهر سليمان الذي يأتي أنه قلع الحجر الأسود ـ و وقع القتال بينه و بين عسكر الخليفة و أغار على البصرة و نواحيها و هزم جيش الخليفة مرات
و من أخبار المعتضد ما أخرجه الخطيب و ابن عساكر عن أبي الحسين الخصيبي قال : وجه المعتضد إلى القاضي أبي حازم يقول : إن لي على فلان مالا و قد بلغني أن غرماءه أثبتوا عندك و قد قسطت لهم من ماله فاجعلنا كأحدهم فقال أبو حازم : قل له : أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ذاكر لما قال لي وقت قلدني إنه قد أخرج الأمر من عنقه و جعله في عنقي و لا يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة فرجع إليه فأخبره فقال : قل له : فلان و فلان يشهدان ـ يعني رجلين جليلين ـ فقال : يشهدان عندي و أسأل عنهما ؟ فإن زكيا قبلت شهادتهما و إلا أمضيت ما قد ثبت عندي فامتنع أولئك من الشهادة فزعا و لم يدفع إلى المعتضد شيئا
و قال ابن حمدون النديم : غرم المعتضد على عمارة البحيرة ستين ألف دينار و كان يخلوا فيها مع جواريه و فيهن محبوبته دريرة فقال ابن بسام :
( ترك الناس بحيره ... و تخلى في البحيره )
( قاعدا يضرب بالطبـ ... ل على حر دريره )
فبلغ ذلك المعتضد فلم يظهر أنه بلغه ثم أمر بتخريب تلك العمارات ثم ماتت دريرة في أيام المعتضد فجزع عليها شديدا و قال يرثيها :
( يا حبيبا لم يكن يعـ ... دله عندي حبيب )
( أنت عن عيني بعيد ... و من القلب قريب )
( ليس لي بعدك في شـ ... يء من اللهو نصيب )
( لك من قلبي على قلـ ... بي و إن بنت رقيب )
( و خيال منك مذ عبـ ... ت خيال لا يغيب )
( لو تراني كيف لي بعـ ... دك عول و نحيب ؟ )
( و فؤادي حشوه من ... حرق الحزن لهيب )
( لتيقنت بأني ... فيك محزون كئيب )
( ما أرى نفسي و إن سلـ ... يتها عنك تطيب )
( لي دمع ليس يعصيـ ... ني و صبر ما يجيب )
و قال بعضهم يمدح المعتضد و هي على جزء جزء :
( طيف ألم ... بذي سلم )
( بين الخيم ... يطوي الأكم )
( جاد نعم ... يشفي السقم )
( ممن لئم ... و ملتزم )
( فيه هضم ... إذا يضم )
( داوى الألم ... ثم انصرم )
( فلم أنم ... شوقا و هم )
( اللوم ذم ... كم ثم كم )
( لوم الأصم ؟ ... أحمد لم )
( كل الثلم ... مما انهدم )
( هو العلم ... و المعتصم )
( خير النسم ... خالا و عم )
( حوى الهمم ... و ما احتلم )
( طود أشم ... شمح الشيم )
( جلا الظلم ... كالبدر تم )
( رعى الذمم ... حمى الحرم )
( فلم يؤم ... خص و عم )
( بما قسم ... له النعم )
( مع النقم ... و الخير جم )
( إذا ابتسم ... و الماء دم )
( إذا انتقم )
اعتل المعتضد في ربيع الآخر سنة تسع و ثمانين علة صعبة و كان مزاجه تغير من كثرة إفراطه في الجماع ثم تماسك فقال ابن المعتز :
( طار قلبي بجناح الوجيب ... جزعا من حادثات الخطوب )
( و حذارا أن يشاك بسوء ... أسد الملك و سيف الحروب )
ثم انتكس و مات يوم الاثنين لثمان بقين منه
و حكى المسعودي قال : شكوا في موت المعتضد فتقدم إليه الطبيب و جس نبضه ففتح عينيه و رفس الطبيب برجله فتدحاه أذرعا فمات الطبيب ثم مات المعتضد من ساعته و لما احتضر أنشد :
( تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى ... و خذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا )
( و لا تأمنن الدهر إني أمنته ... فلم يبق لي حالا و لم يرع لي حقا )
( قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوا و لم أمهل على ظنة خلقا )
( و أخيلت دور الملك من كل بازل ... و شتتهم غربا و مزقتهم شرقا )
( فلما بلغت النجم عزا و رفعة ... و دانت رقاب الخلق أجمع لي رقا )
( رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ملقى )
( فأفسدت دنياي و ديني سفاهة ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى ؟ )
( فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى ... إلى نعمة الله أم نارة ألقى ؟ )
و من شعر المعتضد :
( يا لا حظي بالفتور و الدعج ... و قاتلي بالدلال و الغنج )
( أشكو إليك الذي لقيت من ال ... وجد فهل لي إليك من فرج )
( حللت بالطرف و الجمال من الن ... اس محل العيون و المهج )
و له أنشده الصولي
( لم يلق من حر الفراق ... أحد كما أنا منه لاق )
( يا سائلي عن طعمه ... ألفيته مر المذاق )
( جسمي يذوب و مقلتي ... عبرى و قلبي ذو احتراق )
( ما لي أليف بعدكم ... إلا اكتئابي و اشتياقي )
( فالله يحفظكم جميعـ ... ا في مقام و انطلاق )
و لابن المعتز يرثيه :
( يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا ... و أنت والد سوء تأكل الولدا )
( أستغفر الله بل ذا كله قدر ... رضيت بالله ربا واحدا صمدا )
( يا ساكن القبر في غبراء مظلمة ... بالظاهرية مفصى الدار منفردا )
( أين الجيوش التي قد كنت تنجبها ؟ ... أين الكنوز التي أحصيتها عددا )
( أين السرير الذي قد كنت تملؤه ؟ ... مهابة من رأته عينه ارتعدا )
( أين الأعادي الأولى ذللت مصعبهم ؟ ... أين الليوث التي صيرتها بددا )
( أين الجياد التي حجلتها بدم ؟ ... و كن يحملن منك الضيغم الأسدا )
( أين الرماح التي غديتها مهجا ؟ ... مذ مت ما وردت قلبا و لا كبدا )
( أين الجنان التي تجري جداولها ؟ ... و تستجيب إليها الطائر الغردا )
( أين الوصائف كالغزلان راتعة ؟ ... يسحبن من حلل موشية جددا )
( أين الملاهي ؟ و أين الراح تحسبها ؟ ... يا قوتة كسيت من فضة زردا )
( أين الوثوب إلى الأعداء مبتغيا ؟ ... صلاح ملك بني العباس إذ فسدا )
( ما زلت تقسر منهم كل قسورة ... و تحطم العالي الجبار معتمدا )
( ثم انقضيت فلا عين و لا أثر ... حتى كأنك يوما لم تكن أحدا )
مات في أيام المعتضد من الأعلام : ابن المواز المالكي و ابن أبي الدنيا و إسماعيل القاضي و الحارث بن أبي أسامة و أبو العيناء و المبرد و أبو سعيد الخراز شيخ الصوفية و البحتري الشاعر و خلائق آخرون
و خلف المعتضد من الأولاد أربعة ذكور و من الإناث إحدى عشرة |