قصة عيسى بن مريم عبد الله ورسوله [ وابن أمته (1) ] عليه من الله [ أفضل (1) ] الصلاة والسلام قال الله تعالى في سورة آل عمران التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية منها في الرد على النصارى عليهم لعائن الله، الذين زعموا أن لله ولدا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يذكرون ماهم عليه من الباطل من التثليث في الاقانيم ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة وهم الذات المقدسة وعيسى ومريم، على اختلاف فرقهم، فأنزل الله عزوجل صدر هذه السورة بين فيها أن عيسى عبد من عباد الله خلقه وصوره في الرحم كما صور (2) غيره من المخلوقات وأنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم، وقال له كن فكان (2) سبحانه وتعالى.
وبين أصل ميلاد أمه مريم وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى، وكذلك بسط ذلك في سورة مريم كما سنتكلم على ذلك [ كله ] (1) بعون الله وحسن توفيقه وهدايته.
فقال تعالى وهو أصدق القائلين: " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين.
ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك
__________
(1) ليست في ا (2) ا: كما خلق (3) ا: فيكون (*)
أنت السميع العليم.
فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتهامن الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا، كما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ".
يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام والخلص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته، ثم خصص فقال: " وآل إبراهيم " فدخل فيهم بنو إسماعيل ثم ذكر [ فضل ] (1) هذا البيت الطاهر الطيب وهم آل عمران، والمراد بعمران هذا والد مريم عليها السلام.
وقال محمد بن إسحاق: وهو عمران بن باشم بن أمون بن ميشا ابن حزقيا بن أحريق بن موثم بن عزازيا بن أمصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إيشا بن إيان بن رحبعام (3) بن داود.
وقال أبو القاسم ابن عساكر: مريم بنت عمران بن ما ثان بن العازر ابن اليود بن أخنز بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن أيبود بن زريابيل ابن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون بن ميشابن حزقيا (3) بن أحاز بن موثام بن عزريا بن يوارم بن يوشافاط بن إيشا بن إيبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام.
وفيه مخالفة لما ذكره محمد بن إسحاق.
ولا خلاف أنها من سلالة داود عليها السلام وكان أبوها عمران صاحب
__________
(1) سقطت من ا.
(2) ا: رخيعم.
(3) ط: حزقا.
(*)
صلاة بني إسرائيل في زمانه، وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل
من العابدات، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم أشياع في قول الجمهور وقيل زوج خالتها أشياع فالله أعلم.
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أم مريم كانت لا تحبل فرأت يوما طائرا يزق فرخا له فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت (1) لتجعلن ولدها محررا أي حبيسا في بيت المقدس.
قالوا: فحاضت من فورها فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام " فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت " وقرئ بضم التاء " وليس الذكر كالانثى " أي في خدمة بيت المقدس، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداما من أولادهم.
وقولها: " وإني سميتها مريم " استدل به على تسمية المولود يوم يولد، وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهابه بأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنك أخاه وسماه عبد الله.
وجاء في حديث الحسن عن سمرة مرفوعا " كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه ".
رواه أحمد وأمل السنن وصححه الترمذي.
وجاء في بعض ألفاظه: " ويدمى " بدل ويسمى وصححه بعضهم والله أعلم.
وقولها: " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " قد استجيب
__________
(1): لئن ولدت.
(*) (24 - قصص الانبياء - 2)
لها في هذا كما تقبل منها نذرها، فقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إلا مريم وابنها " ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ".
أخرجاه من حديث عبد الرزاق ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية، عن عبد الله بن الزبيدي، عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال أحمد أيضا: حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن عجلان مولى المشمعل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بإصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى ".
تفرد به من هذا الوجه.
ورواه مسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن عمر بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه (1) إلا ما كان من مريم وابنها، ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ذلك حين يلكزه الشيطان بحضنيه ".
__________
(1) الحضن: الجنب وهما حضنان.
(*)
وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه من هذا الوجه، ورواه قيس عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من
مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى بن مريم ومريم " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ".
وكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
بأصل الحديث.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الملك، حدثنا المغيرة هو ابن عبد الرحمن الحزامى (1)، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ".
وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقوله: " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا " ذكر كثير من المفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خروقها ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها، والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها.
ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها، وكان زكريا نبيهم في
__________
(1) ط: هو ابن عبد الله " الحزامى ؟ ؟.
وهو مغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حكيم بن حزام الاسدي المدنى.
انظر ميزان الاعتدال 4 / 163.
(*)
ذلك الزمان، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل زوجته أختها أو خالتها على القولين.
فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة [ لهم ] (1) وذلك أن الخالة بمنزلة الام.
قال الله تعالى: " وكفلها زكريا " أي بسبب غلبه لهم في القرعة كما قال تعالى: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ".
قالوا: وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفا به، ثم حملوها ووضعوها في موضع وأمروا غلاما لم يبلغ الحنث فأخرج واحدا منها وظهر قلم زكريا عليه السلام.
فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جرية الماء (2) فهو الغالب ففعلوا فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جرية الماء، وسارت أقلامهم مع الماء ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الاقلام قد انعكس سيرها صعدا [ فهو الغالب ففعلوا (1) ] فكان زكريا هو الغالب لهم فكفلها إذ كان أحق بها شرعا وقدرا لوجوه عديدة.
قال الله تعالى: " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال: يا مريم أنى لك هذا، قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " قال المفسرون: اتخذ لها زكريا مكانا شريفا من المسجد لا يدخله سواها، فكانت تعبد الله فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة
__________
(1): ليست في ا.
(2) ا: فأيهم جرى قلمه مع الماء.
(*)
البيت إذا جاءت نوبتها وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها، حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل، واشتهرت بما ظهر عليها من الاحوال الكريمة والصفات الشريفة حتى إنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقا غريبا في غير أوانه، فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فيسألها " أنى لك هذا "
فتقول " هو من عند الله " أي رزق رزقنيه الله " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ".
فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه وإن كان قد أسن وكبر " قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ".
قال بعضهم: قال يا من يرزق [ مريم ] (1) الثمر في غير أوانه (2) هب لي ولدا وإن كان في غير أوانه.
فكان من خبره وقضيته ما قدمنا ذكره في قصته.
* * * " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واسطفاك على نساء العالمين.
يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعى مع الراكعين.
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون.
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين.
ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين.
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء
__________
(1) ليست في ا (2) ا: في غير أيامه.
(*)
إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
ومصدقا
لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون.
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ".
يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء عالمى زمانها، بأن اختارها لايجاد ولد منها من غير أب وبشرت بأن يكون نبيا شريفا " يكلم الناس في المهد " أي في صغره يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكذلك في حال كهوليته، فدل على أنه يبلغ الكهولة ويدعو إلى الله فيها، وأمرت بكثرة العبادة والقنوت والسجود والركوع لتكون أهلا لهذه الكرامة ولتقوم بشكر هذه النعمة، فيقال إنها كانت تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها رضى الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها.
فقول الملائكة: " يا مريم إن الله اصطفاك " أي اختارك واجتباك " وطهرك " أي من الاخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة " واصطفاك على نساء العالمين ".
يحتمل أن يكون المراد عالمى زمانها كقوله لموسى " إني اصطفيتك على الناس " وكقوله عن بني إسرائيل " ولقد اخترناهم على
علم على العالمين " ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام أفضل من موسى، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منهما، وكذلك هذه الامة أفضل من سائر الامم قبلها وأكثر عددا وأفضل علما وأزكى عملا من بني إسرائيل وغيرهم.
ويحتمل أن يكون قوله: " واصطفاك على نساء العالمين " محفوظ العموم فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها أو جد بعدها لانها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها ونبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى
محتجا بكلام الملائكة والوحى إلى أم موسى، كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره، فلا يمتنع على هذا أن تكون مريم أفضل من سارة وأم موسى لعموم قوله " واصطفاك على نساء العالمين " إذ لم يعارضه غيره.
والله أعلم.
وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الاشعري وغيره عن أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال، وليس في النساء نبية فيكون أعلى مقامات مريم كما قال الله تعالى " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة " فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها وممن يكون بعدها.
والله أعلم.
وقد جاء ذكرها مقرونا مع آسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن وأرضاهن.
وقد روى الامام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عديدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد ".
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حسبك من نساء العالمين بأربع، مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ".
ورواه الترمذي عن أبي بكر بن زنجويه، عن عبد الرزاق به وصححه، ورواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن أبي جعفر [ الرازي ] (1) وابن عساكر من طريق تميم بن زياد، كلاهما عن أبي جعفر الرازي، عن
ثابت، عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد رسول الله ".
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: كان أبو هريرة يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير نساء ركبن الابل صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه لزوج في ذات يده " قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيرا قط.
وقد رواه مسلم في صحيحه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقال أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى موسى بن علي، سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نساء ركبن
__________
(1) ليست في ا (*)
الابل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرأفه بزوج على قلة ذات يده " قال أبو هريرة: وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابنة عمران لم تركب الابل.
تفرد به وهو على شرط الصحيح.
ولهذا الحديث طرق أخر عن أبي هريرة.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الارض أربع خطوط فقال أتدرون
ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " ورواه النسائي من طرق عن داود [ بن (1) ] أبي هند.
وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان ابن الاشعث، حدثنا يحيى بن حاتم العسكري، أنبأنا بشر بن مهران ابن حمدان، حدثنا محمد بن دينار، عن داود بن أبي هند، عن الشعبى، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران ".
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا وهب بن بقية (2) حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة،
__________
(1) سقطت من الاصل وأثبتها من ميزان الاعتدال 2 / 11.
(2) كذا في ا وفي ط: وهب بن منبه.
وهو خطا لان وهب بن منبه من التابعين وقد روى عن ابن عباس و عبد الله بن عمرو.
(*)
أنها قالت لفاطمة: أرأيت حين أكببت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت ثم ضحكت ؟ قالت: أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أكببت عليه فأخبرني أنى أسرع أهله لحوقا به وأنى سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت.
وأصل هذا الحديث في الصحيح.
وهذا إسناد على شرط مسلم وفيه أنهما أفضل الاربع المذكورات.
وهكذا الحديث الذي رواه الامام ؟ ؟ أحمد: حدثنا عثمان بن محمد،
حدثنا جرير، عن يزيد هو ابن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نعم (1)، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران.
إسناد حسن وصححه الترمذي ولم يخرجوه، وقد روى نحوه من حديث علي بن أبي طالب ولكن في إسناده ضعف.
والمقصود أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الاربع.
ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة ويحتمل أن يكونا على السواء في الفضيلة.
لكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الاول فقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أنبأنا أبو الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنا، قالوا أنبأنا (2) أبو جعفر بن المسلمة، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أحمد بن سليمان، حدثنا الزبير هو بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن،
__________
(1): ا ابن أبي يعمر.
محرفة وفي المطبوعة: ابن أبي نعيم.
محرفة أيضا والتصويب من ميزان الاعتدال 2 / 595.
(2) ا: أخبرنا (*)
عن عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون ".
فإن كان هذا اللفظ محفوظا بثم التي للترتيب فهو مبين لاحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء، وتقدم على ما تقدم من الالفاظ التي وردت بواو العطف التي لا تقتضي الترتيب ولا تنفيه والله أعلم.
وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازي عن داود الجعفري، عن
عبد العزيز بن محمد وهو الدراوردي، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس مرفوعا.
فذكره بواو العطف لا بثم الترتيبية، فخالفه إسنادا ومتنا.
فالله أعلم.
فأما الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث شعبة، عن معاوية ابن قرة، عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " وهكذا الحديث الذي رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق، عن شعبة عن عمرو بن مرة [ عن مرة ] (1) الهمداني، عن أبي موسى الاشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
__________
(1) سقط من ا.
(*)
فإنه حديث صحيح كما ترى اتفق الشيخان على إخراجه، ولفظه يقتضى حصر الكمال في النساء في مريم وآسية، ولعل المراد بذلك في زمانهما فإن كلا منهما كفلت نبيا في حال صغره، فآسية كفلت موسى الكليم، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله، فلا ينفى كمال غيرهما في هذه الامة كخديجة وفاطمة.
فخديجة خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة خمسة عشر سنة وبعدها أزيد من عشر سنين، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها، رضي الله عنها وأرضاها.
وأما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها خصت بمزيد فضيلة على أخواتها لانها أصيبت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية أخواتها متن في حيات النبي (1) صلى الله عليه وسلم.
وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولم يتزوج بكرا غيرها، ولا يعرف في سائر النساء في هذه الامة بل ولا في غيرها أعلم منها ولا أفهم، وقد غار الله لها حين قال [ لها ] (2) أهل الافك ما قالوا فأنزل [ الله ] (3) براءتها من فوق سبع سماوات، وقد عمرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من خمسين سنة تبلغ عنه القرآن والسنة وتفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين، والاحسن الوقف فيهما رضي الله عنهما
__________
(1) ا: في حياة رسول الله.
(2) من ا.
(3) سقط من ا.
(*)
وما ذاك إلا لان قوله صلى الله عليه وسلم: " وفضل عائشة على النساء كفضل.
الثريد على سائر الطعام " يحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى المذكورات.
وغيرهن ويحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى [ ما عدا ] (1) المذكورات.
والله أعلم.
والمقصود هاهنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام، فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمى زمانها، ويجوز أن يكون تفضيلها على النساء مطلقا كما قدمنا.
وقد ورد في حديث أنها تكون من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة هي وآسية بنت مزاحم.
وقد ذكرنا في التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك واستأنس بقوله: " ثيبات وأبكارا "
قال: فالثيب آسية ومن الابكار مريم بنت عمران.
وقد ذكرناه في آخر سورة التحريم فالله أعلم.
قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفى، حدثنا أبي أنبأنا (2) عمى الحسين، حدثنا يونس بن نفيع، عن سعد بن جنادة، هو العوفى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله زوجنى في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى ".
رواه [ ابن ] (3) جعفر العقيلى من حديث عبدالنور به وزاد فقلت: هنيئا لك يا رسول الله.
ثم [ قال ] (3) العقيلى: وليس بمحفوظ.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن يعلى بن المغيرة
__________
(1) سقط من ا.
(2) ا حدثنا.
(3) سقط من ا.
(*)
عن أبي داود، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه فقال لها: بالكره منى ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكرة خيرا كثيرا، أما علمت أن الله قد زوجنى معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون ؟ قالت: وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم.
قالت بالرفاء والبنين.
وروى ابن عساكر من حديث محمد بن زكريا الغلابى، حدثنا العباس ابن بكار، حدثنا ؟ ؟ أبو بكر الهذلى، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في [ مرض ] (1) للموت فقال: يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن منى السلام قالت:
يا رسول الله وهل تزوجت قبلى ؟ قال: لا ولكن الله زوجنى مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى.
وروى ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد، حدثنا محمد بن صالح ابن عمر، عن الضحاك ومجاهد، عن ابن عمر، قال: نزل جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أرسل به وجلس يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت خديجة، فقال جبريل: من هذه يا محمد ؟ قال هذه صديقة أمتى.
قال جبريل معى إليها رسالة من الرب عزوجل يقرئها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب.
قالت: الله السلام ومنه السلام والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله، ما ذلك البيت الذي من قصب ؟ قال: لؤلؤة
__________
(1) سقط من ا.
(*)
جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبنت آسية بنت مزاحم، وهما من أزواجي يوم القيامة.
وأصل السلام على خديجة من الله وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا وصب في الصحيح، ولكن هذا السياق بهذه الزيادات غريب جدا.
وكل من هذه الاحاديث في أسانيدها نظر.
وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة الدمشقي، حدثنا عبد الله ابن صالح حدثنى معاوية، عن صفوان بن عمرو، عن خالد بن معدان عن كعب الاحبار أن معاوية سأله عن الصخرة يعنى صخرة بيت المقدس فقال: الصخرة على نخلة، والنخلة على نهر من أنهار الجنة، وتحت النخلة مريم بنت عمر وآسية بنت مزاحم ينظمان سموط أهل الجنة حتى
تقوم الساعة.
ثم رواه من طريق إسماعيل، عن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن مسعود، عن عبد الرحمن، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
وهذا منكر من هذا الوجه بل هو موضوع.
وقد رواه أبو زرعة عن عبد الله بن صالح، عن معاوية عن مسعود ابن عبد الرحمن، عن ابن عابد، أن معاوية سأل كعبا عن صخرة بيت المقدس فذكره.
قال الحافظ ابن عساكر: وكونه من كلام كعب الاحبار أشبه.
قلت: وكلام كعب الاحبار هذا إنما تلقاه من الاسرائيليات التي منها ما هو مكذوب مفتعل وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم، وهذا منه والله أعلم
ذكر ميلاد العبد الرسول عيسى بن مريم العذراء البتول قال الله تعالى: " واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا.
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا.
قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا.
قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا.
قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا.
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا.
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا.
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي
واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا.
فأتت به قومها تحمله قالوا: يا مريم لقد جئت شيئا فريا.
يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا.
فأشارت إليه قالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا.
وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا.
ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون.
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.
فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ".
ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا التي هي كالمقدمة لها والتوطئة [ قبلها ] (1) كما ذكر في سورة آل عمران، قرن بينهما في سياق واحد وكما قال في سورة الانبياء " وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين.
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ".
وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس وأنه كفلها زوج أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام، وأنه اتخذ لها محرابا وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها سواه، وأنها لما بلغت اجتهدت في العبادة فلم يكن في ذلك الزمان
نظيرها في فنون العبادات، وظهر عليها من الاحوال ما غبطها به زكريا عليه السلام وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها وبأنه سيهب لها ولدا زكيا يكون نبيا كريما طاهرا مكرما مؤيدا بالمعجزات، فتعجبت من وجود ولد من غير والد، لانها لا زوج لها، ولا هي ممن تتزوج فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت لامر الله، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها فإن الناس يتكلمون فيها بسببه، لانهم لا يعلمون حقيقة الامر، وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل (2).
وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: ولا عقل.
(*) (25 - قصص الانبياء 2)
منها من استقاء ماء أو تحصيل غذاء، فبينما هي يوما قد خرجت لبعض شؤونها " وانتبذت " أي انفردت وحدها شرقي المسجد الاقصى إذ بعث الله إليها الروح الامين جبريل عليه السلام " فتمثل لها بشرا سويا " فلما رأته " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ".
قال أبو العالية: علمت أن التقى ذو نهية.
وهذا يرد قول من زعم أنه كان في بني إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق اسمه " تقى " فإن هذا قول باطل بلا دليل، وهو من أسخف الاقوال.
" قال إنما أنا رسول ربك " أي خاطبها الملك " قال (1) إنما أنا رسول ربك " [ أي ] (2) لست ببشر ولكني ملك بعثنى الله إليك لاهب لك غلاما زكيا " أي ولدا زكيا.
" قالت أنى يكون لي غلام " أي كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد " ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " أي ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة " قال كذلك قال ربك هو علي هين " أي فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلا " كذلك قال ربك " أي وعد أنه سيخلق منك غلاما ولست بذات بعل ولا تكونين ممن تبغين " هو علي هين " أي وهذا سهل عليه ويسير لديه، فإنه على ما يشاء قدير.
وقوله: " ولنجعله آية للناس " أي ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلا
__________
(1) ا: قائلا إنما أنا رسول ربك.
(2) من ا.
(*)
على كمال قدرتنا على أنواع الخلق، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى.
وقوله " ورحمة منا " أي نرحم به العباد بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والاولاد والشركاء والنظراء والاضداد والانداد.
وقوله: " وكان أمرا مقضيا ".
يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها، يعنى أن هذا أمر قد قضاه الله وحتمه وقدره وقرره، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق واختاره ابن جرير، ولم يحك سواه والله أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله " وكان أمرا مقضيا " كناية عن نفخ جبريل فيها كما قال تعالى: " ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها
فنفخنا فيه من روحنا ".
فذكر غير واحد من السلف أن جبريل نفخ في جيب درعها فنزلت النفخة إلى فرجها فحملت من فورها كما تحمل المرأة عند جماع بعلها.
ومن قال إنه نفخ في فمها أو أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها، فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن، فإن هذا السياق يدل على أن الذي أرسل إليها ملك من الملائكة وهو جبريل عليه السلام، وأنه إنما نفخ فيها ولم يواجه الملك الفرج بل نفخ في جيبها فنزلت النفخة إلى فرجها فانسلكت فيه، كما قال تعالى
" فنفخنا فيه من روحنا " فدل (1) على أن النفخة ولجت فيه لا في فمها، كما رواه السدى بإسناده عن بعض الصحابة.
ولهذا قال تعالى: " فحملته " أي فحملت ولدها " فانتبذت به مكانا قصيا " وذلك لان مريم عليها السلام لما حملت ضاقت به ذرعا، وعلمت أن كثيرا من الناس سيكون منهم كلام في حقها، فذكر غير واحد من السلف منهم وهب بن منبه أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له يوسف بن يعقوب النجار، وكان ابن خالها فجعل يتعجب من ذلك عجبا شديدا، وذلك لما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها وهو مع ذلك يراها حبلى وليس لها زوج، فعرض لها ذات يوم في الكلام فقال: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر ؟ قالت: نعم، فمن خلق الزرع الاول.
ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت: نعم إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى.
قال لها: فأخبريني خبرك.
فقالت: إن الله بشرني
" بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين.
ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ".
ويروى مثل هذا عن زكريا عليه السلام أنه سألها فأجابته بمثل هذا والله أعلم.
وذكر السدى بإسناده عن الصحابة: أن مريم دخلت يوما على أختها فقالت لها أختها: أشعرت أنى حبلى ؟ فقالت مريم: وشعرت أيضا أنى حبلى ؟
__________
(1) ط: يدل.
وما اثبته من ا.
(*)
فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك قوله " مصدقا بكلمة من الله " ومعنى السجود هاهنا الخضوع والتعظيم، كالسجود عند المواجهة للسلام كما كان [ في ] (1) شرع من قبلنا، وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم.
وقال أبو القاسم: قال مالك: بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة وكان حملهما جميعا [ معا ] (1)، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك.
قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام، لان الله تعالى جعله يحيى الموتى ويبرئ الاكمه والابرص.
رواه ابن أبي حاتم.
[ وروى عن مجاهد قال: قالت مريم كنت إذا خلوت حدثنى وكلمني وإذا كنت بين الناس سبح في بطني ] (1).
ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر كما تحمل النساء ويضعن لميقات حملهن ووضعن، إذ لو كان خلاف ذلك لذكر.
وعن ابن عباس وعكرمة أنها حملت به ثمانية أشهر، وعن ابن عباس ما هو إلا أن حملت به فوضعته.
قال بعضهم: حملت به تسع ساعات واستأنسوا لذلك بقوله " فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ".
والصحيح أن تعقيب كل شئ بحسبه، كقوله " فتصبح الارض
__________
(1) ليست في ا.
(*)
مخصرة " وكقوله: " فخلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " ومعلوم أن بين كل حالين أربعين يوما كما ثبت في الحديث المتفق عليه.
قال محمد بن إسحق: شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل، فما دخل على أهل بيت مادخل على آل [ بيت ] (1) زكريا.
قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم واعتزلتهم وانتبذت مكانا قصيا.
وقوله: " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " أي فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة، وهو بنص الحديث الذي رواه النسائي بإسناد لا بأس به عن أنس مرفوعا والبيهقي بإسناد وصححه عن شداد بن أوس مرفوعا أيضا ببيت لحم الذي بنى عليه بعض ملوك الروم فيما بعد على ما سنذكره هذا البناء المشاهد الهائل.
" قالت: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " فيه دليل على جواز تمنى الموت عند الفتن، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها، مع أنها قد كانت
عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه، ومن بيت النبوة والديانة فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا (2) الحال أو كانت " نسيا منسيا " أي لم تخلق بالكلية.
__________
(1) سقطت من ا.
(2) ا: هذه.
(*)
وقوله: " فناداها من تحتها " وقرئ من تحتها على الخفض، وفي المضمر قولان: أحدهما أنه جبريل.
قاله العوفى عن ابن عباس قال: ولم يتكلم عيسى إلا بحضرة القوم.
وبهذا قال سعيد بن جبير وعمرو بن ميمون والضحاك والسدى وقتادة.
وقال مجاهد والحسن وابن زيد وسعيد ابن جبير في رواية: هو ابنها عيسى.
واختاره ابن جرير.
وقوله " أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ".
قيل النهر وإليه ذهب الجمهور.
وجاء فيه حديث رواه الطبراني لكنه ضعيف واختاره ابن جرير وهو الصحيح وعن الحسن والربيع بن أنس وابن أسلم وغيرهم أنه ابنها.
والصحيح الاول لقوله " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " فذكر الطعام والشراب ولهذا قال " فكلي واشربي وقري عينا ".
ثم قيل: كان جذع النخلة يابسا وقيل كانت نخلة مثمرة فالله أعلم.
ويحتمل أنها كانت نخلة، لكنها لم تكن مثمرة إذ ذاك، لان ميلاده كان في زمن الشتاء وليس ذاك وقت ثمر، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان " تساقط عليك رطبا جنيا ".
قال عمرو بن ميمون: ليس شئ أجود (2) للنفساء من التمر والرطب
ثم تلا هذه الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا شيبان، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الاوزاعي (3) عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب قال: قال
__________
(1) ط: وهكذا قال.
(2) ا: خير.
(3): ط: الانصاري: وما أثبته من ا (*)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي حلق منه آدم وليس من الشجر شئ يلقح غيرها " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران ".
وكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن شيبان بن فروخ، عن مسروق ابن سعيد.
وفي رواية مسرور بن سعد.
والصحيح مسرور بن سعيد التميمي، أورد له ابن عدى هذا الحديث هن الاوزاعي به ثم قال: وهو منكر الحديث [ ولم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث ] (1).
وقال ابن حبان: يروى عن الاوزاعي المناكير الكثيرة التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها.
وقوله: " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ".
وهذا من تمام كلام الذي ناداها من تحتها قال: " كلى واشربي وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا " أي فإن رأيت أحدا من الناس " فقولي " له أي بلسان الحال والاشارة " إني نذرت للرحمن صوما " أي صمتا، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام.
قاله قتادة والسدى وابن أسلم.
ويدل على ذلك
قوله: " فلن أكلم اليوم إنسيا " فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلى الليل.
__________
(1) سقط من ا.
(*)
وقوله تعالى: " فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا.
يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " ذكر كثير من السلف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها فمروا على محلتها والانوار حولها، فلما واجهوها وجدوا معها ولدها فقالوا لها: " يا مريم لقد جئت شيئا فريا " أي أمرا عظيما منكرا.
وفي هذا الذي قالوه نظر، مع أنه كلام ينقض أوله آخره وذلك لان ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملته بنفسها وأتت به قومها وهي تحمله.
قال ابن عباس: وذلك بعد ما تعالت (1) من نفاسها بعد أربعين يوما.
والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال.
ثم قالوا لها " يا أخت هرون " قيل شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تساميه في العبادة، وكان اسمه هرون.
قاله سعيد بن جبير.
وقيل أرادوا بهرون أخا موسى شبهوها به في العبادة.
وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهرون نسبا، فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على [ أدنى ] (2) من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهرون صربت بالدف يوم نجى الله موسى وقومه وأغرق فرعون وملاه، فاعتقد
أن هذه هي هذه.
__________
(1) ط: تعلت (2) سقط من ا.
(*)
وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح مع نص القرآن كما قررناه في التفسير مطولا ولله الحمد والمنة.
وقد ورد الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هرون وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها.
والله أعلم.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت أبي بذكره، عن سماك.
عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون: " يا أخت هرون " وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال فرحت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالانبياء والصالحين قبلهم ".
وكذا رواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن إدريس، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه وفي رواية.
" الا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم ".
وذكر قتادة وغيره أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهرون حتى قيل إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير منهم ممن يسمى بهرون أربعون ألفا ! فالله أعلم.
والمقصود أنهم قالوا: " يا أخت هرون " ودل الحديث على أنها قد كان لها أخ نسبي اسمه هرون وكان مشهورا بالدين والصلاح والخير،
ولهذا قالوا: " ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " أي لست
من بيت هذا شيمتهم ولا سجيتهم لا أخوك ولا أمك ولا أبوك، فاتهموها بالفاحشة العظمى ورموها بالداهية الدهياء.
فذكر ابن جرير في تاريخه أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله ففر منهم فلحقوه وقد انشقت له الشجرة فدخلها وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشره فيها كما قدمناه.
ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف ابن يعقوب النجار.
فلما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال، عظم التوكل على ذي الجلال، ولم يبق إلا الاخلاص والاتكال " فأشارت إليه " أي خاطبوه وكلموه فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه، فعندها " قالوا " من كان منهم جبارا شقيا: " كيف نكلم من كان في المهد صبيا " أي كيف تحيلينا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب، وهو مع ذلك رضيع في مهده ولا يميز بين محض وزبده، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء والتنقص لنا والازدراء، إذ لا تردين علينا قولا نطقيا، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبيا.
فعندها " قال إني عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا.
وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا.
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ".
هذا أول كلام تفوه به عيسى بن مريم، فكان أول ما تكلم به
أن " قال إني عبد الله " اعترف لربه تعالى بالعبودية، وأن الله ربه فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله، بل هو عبده ورسوله وابن أمته، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله: " آتانى الكتاب وجعلني نبيا " فإن الله لا يعطى النبوة من هو كما زعموا لعنهم الله وقبحهم، كما قال تعالى " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا إنها حملت به من زنا في زمن الحيض، لعنهم الله فبرأها الله من ذلك وأخبر عنها أنها صديقة واتخذ ولدها نبيا مرسلا أحد أولى العزم الخمسة الكبار ولهذا قال: " وجعلني مباركا أينما كنت " وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تعالى وتقدس " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة، والاحسان إلى الخليقة بالزكاة، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الاخلاق الرذيلة وتطهير الاموال الجزيلة بالعطية للمحاويج على اختلاف الآصناف وقرى الاضياف والنفقات على الزوجات والارقاء والقرابات وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات.
ثم قال " وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا " أي وجعلني برا بوالدتي وذلك أنه تأكد حقها عليه لتمحض جهتها إذ لا والد له سواها، فسبحان من خلق الخليقة وبرأها وأعطى كل نفس هداها.
" ولم يجعلني جبارا شقيا " أي لست بفظ ولا غليظ، ولا يصدر منى قول ولا فعل ينافى أمر الله وطاعته.
" والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ".
وهذه المواطن الثلاثة التي تقدم الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية وبين أمره ووضحه وشرحه قال: " ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون.
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " كما قال تعالى بعد [ ذكر ] (2) قصته وما كان من أمره في آل عمران: " ذلك فتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم * إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ".
ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكبا يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم، ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم وهم العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة، فجعلوا يناظرون في أمر المسيح فأنزل الله صدر سورة آل عمران في ذلك، وبين أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أمه من قبله، وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه، فلما رأوا عينيها وأذنيها نكصوا (1) وامتنعوا عن المباهلة وعدلوا
__________
(1) ا: نكلوا.
(*)
إلى المسالمة (1) والموادعة وقال قائلهم وهو العاقب عبد المسيح: يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لا عن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والاقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فطلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يضرب عليهم جزية وأن يبعث معهم رجلا أمينا، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقد بينا ذلك في تفسير آل عمران وقد بسطنا هذه القصة في السيرة النبوية (2).
والمقصود أن الله تعالى بين أمر المسيح فقال لرسوله: " ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " يعنى من أنه عبد مخلوق من امرأة من عباد الله، ولهذا قال: " ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " أي لا يعجزه شئ ولا يكرثه ولا يؤوده بل هو [ القدير ] (3) الفعال لما يشاء " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقوله: " إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " هو من تمام كلام عيسى لهم في المهد، أخبرهم أن الله ربه وربهم وإلهه وإلهم، وأن هذا هو الصراط المستقيم.
قال الله تعالى: " فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين
__________
(1) ا: إلى المسألة (2) ا أنظر السيرة النبوية لابن كثير 4 / 100 - 108 بتحقيقنا.
(3) سقطت من ا.
(*)
كفروا من مشهد يوم عظيم " أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن
بعدهم فيه.
فمن قائل من اليهود: إنه ولد زنية، واستمروا على كفرهم وعنادهم.
وقابلهم آخرون في الكفر فقالوا: هو الله.
وقال آخرون: هو ابن الله.
وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهؤلاء هم الناجون المثابون والمؤيدون المنصورون، ومن خالفهم في شئ من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون، وقد توعدهم العلي العظيم الحكيم العليم بقوله: " فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ".
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، أنبأنا الوليد، حدثنا الاوزاعي، حدثني عمير بن هانئ، حدثنى جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ".
قال الوليد: فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عمير، عن جنادة: وزاد: من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء.
وقد رواه مسلم عن داود بن رشيد، عن الوليد، عن جابر به ومن طريق أخرى عن الاوزاعي به.
باب بيان ان الله تعالى منزه عن الولد تعالى عما بقول الظالمون علوا كبيرا
وقال تعالى في آخر هذه السورة: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا " شيئا عظيما ومنكرا من القول وزورا " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا.
أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السموات والارض إلا آتى الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ".
فبين أنه تعالى لا ينبغي له الولد لانه خالق كل شئ ومالكه، وكل شئ فقير إليه، خاضع ذليل لديه وجميع سكان السموات والارض عبيده، هو ربهم لا إله إلا هو ولا رب سواه كما قال تعالى: " وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السموات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل * لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير (1) " * فبين أنه خالق كل شئ فكيف يكون له ولد، والولد لا يكون إلا بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا نظير له ولا شبيه ولا عديل له، فلا صاحبة له، فلا يكون له ولد كما قال تعالى: " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد
__________
(1) سورة الانعام.
(*)
ولم يكن له كفوا أحد " يقرر أنه الاحد الذي لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله " الصمد " وهو السيد الذي كمل في علمه وحكمته
ورحمته و [ بلغ (1) ] جميع صفاته " لم يلد " أي لم يوجد منه ولد " ولم يولد " أي ولم يتولد (2) عن شئ قبله " ولم يكن له كفوا أحد " أي وليس له عدل ولا مكافئ.
ولا مساو فقطع النظير المدانى والاعلى والمساوي، فانتفى أن يكون له ولد، إذ لا يكون الولد إلا متولدا بين شيئين متعادلين أو متقاربين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقال تبارك وتعالى وتقدس: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة، انتهوا خيرا لكم، إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (3) ".
ينهى تعالى أهل الكتاب ومن شابههم عن الغلو والاطراء في الدين وهو مجاوزة الحد، فالنصارى لعنهم الله غلوا وأطروا المسيح حتى جاوزوا الحد.
__________
(1) من ا (2) ا: ولم يولد (3) سورة المائدة (*) (م 26 - قصص الانبياء 2)
فكان الواجب عليهم أن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله وابن أمته العذراء البتول التي أحصنت فرجها فبعث الله الملك جبريل إليها فنفخ فيها عن أمر الله نفخة حملت منها بولدها عيسى عليه السلام، والذي اتصل
بها من الملك هي الروح المضافة إلى الله إضافة تشريف وتكريم، وهي مخلوقة من مخلوقات الله تعالى كما يقال: بيت الله وناقة الله و عبد الله، وكذا روح الله أضيفت إليه تشريفا لها وتكريما.
وسمى عيسى بها لانه كان بها من غير أب وهي الكلمة أيضا التي عنها خلق وبسببها وجد كما قال تعالى: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (1) ".
وقال تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل له ما في السموات والارض كل له قانتون.
بديع السموات والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (2) ".
وقال تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (3) ".
فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى عليهم لعائن الله، كل من الفريقين ادعوا على الله شططا وزعموا أن له ولدا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وأخبر أنهم ليس لهم مستند فيما زعموه ولا فيما ائتفكوه، إلا مجرد القول ومشابهة من سبقهم إلى هذه المقالة الضالة تشابهت قلوبهم.
وذلك أن الفلاسفة عليهم لعنة الله زعموا أن العقل الاول صدر
__________
(1) سورة آل عمران (2) سورة البقرة 116، 117.
(3) سورة التوبة 30 (*)
عن واجب الوجود الذي يعبرون عنه بعلة العلل والمبدأ الاول، وأنه صدر عن العقل الاول عقل ثان ونفس وفلك، ثم صدر عن الثاني كذلك حتى تناهت العقول إلى عشرة والنفوس إلى تسعة والافلاك إلى تسعة، باعتبارات فاسدة ذكروها واختيارات باردة أوردوها.
ولبسط الكلام معهم
وبيان جهلهم وقلة عقلهم موضع آخر.
وهكذا طوائف من مشركي العرب زعموا لجهلهم أن الملائكة بنات الله وأنه صاهر سروات الجن فتولد منهما الملائكة.
تعالى الله عما يقولون وتنزه عما يشركون.
كما قال تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون (1) " وقال تعالى: " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون.
أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون.
أصطفى البنات على البنين ؟ ! ما لكم كيف تحكمون.
أفلا تذكرون.
أم لكم سلطان مبين.
فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين.
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون.
سبحان الله عما يصفون.
إلا عباد الله المخلصين (2) ".
وقال تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ".
وقال تعالى في أول سورة الكهف وهي مكية: " الحمد لله الذي أنزل
__________
(1) سورة الزخرف 19، 20.
(2) سورة الصافات 149 - 160 (*)
على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا.
وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ".
وقال تعالى: " قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات
وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.
متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (1) " فهذه الآيات المكيات الكريمات تشمل الرد على سائر فوق الكفرة من الفلاسفة ومشركي العرب واليهود والنصارى الذين ادعوا وزعموا بلا علم أن لله ولدا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون [ المعتدون (2) ] علوا كبيرا.
ولما كانت النصارى عليهم لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة من أشهر من قال بهذه المقالة ذكروا في القرآن كثيرا للرد عليهم وبيان تناقضهم وقلة علمهم وكثرة جهلهم، وقد تنوعت أقوالهم في كفرهم، وذلك أن الباطل كثير التشعب والاختلاف والتناقض.
وأما الحق فلا يختلف ولا يضطرب.
قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ".
فدل على أن الحق يتحد ويتفق والباطل يختلف ويضطرب.
فطائفة من ضلالهم وجهالهم زعموا أن المسيح هو الله تعالى.
وطائفة قالوا هو ابن الله، عز الله.
وطائفة قالوا هو ثالث ثلاثة.
جل الله.
__________
(1) سورة يونس 68 - 70 (2) ليست في ا (*)
قال الله تعالى في سورة المائدة: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا ولله ملك السموات والارض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير ".
فأخبر تعالى عن كفرهم وجهلهم وبين أنه الخالق القادر على كل شئ وأنه رب كل شئ
ومليكه وإلهه.
وقال في أواخرها: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم.
ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ".
حكم تعالى بكفرهم شرعا وقدرا، فأخبر أن هذا صدر منهم مع أن الرسول إليهم هو عيسى بن مريم، وقد بين لهم أنه عبد مربوب مخلوق مصور في الرحم داع إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتوعدهم على خلاف ذلك بالنار وعدم الفوز بدار القرار والخزي في الدار والآخرة والهوان والعار، ولهذا قال: " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ".
ثم قال: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد " قال ابن جرير وغيره: المراد بذلك قولهم بالاقانيم الثلاثة (1): أقنوم الاب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة المنبثقة من الاب إلى الابن، على اختلافهم في ذلك ما بين المليكية واليعقوبية والنسطورية، عليهم لعائن الله كما سنبين كيفية اختلافهم في ذلك ومجامعهم الثلاثة في زمن قسطنطين بن قسطس، وذلك بعد المسيح بثلاثمائة سنة وقبل البعثة المحمدية بثلاثمائة سنة.
ولهذا قال تعالى: " وما من إله إلا إله واحد " أي وما من إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا كفؤ له ولا صاحبة له ولا ولد، ثم توعدهم وتهددهم فقال: " وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " ثم دعاهم برحمته ولطفه إلى التوبة والاستغفار من هذه الامور الكبار والعظائم التي توجب النار فقال: " أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ".
ثم بين حال المسيح وأمه وأنه عبد رسول وأمه صديقة، أي ليست بفاجرة كما يقوله اليهود لعنهم الله، وفيه دليل على أنها ليست بنبية كما زعمه طائفة من علمائنا.
وقوله: " كانا يأكلان الطعام " كناية عن خروجه منهما كما يخرج من غيرهما، أي ومن كان بهذه المثابة كيف يكون إلها ! تعالى الله عن قولهم وجهلهم علوا كبيرا.
وقال السدى وغيره: المراد بقوله " لقد كفر الذين قالوا إن الله
__________
(1) ا: المراد بتلك الثلاثة.
(*)
ثالث ثلاثة " زعمهم في عيسى وأمه أنهما الالهان مع الله، يعنى كما بين تعالى كفرهم في ذلك بقوله في آخر هذه السورة الكريمة: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم (1) ".
يخبر تعالى أنه يسأل عيسى بن مريم عليه السلام يوم القيامة على سبيل الاكرام له والتقريع والتوبيخ لعابديه ممن كذب عليه وافترى وزعم أنه ابن الله، أو أنه الله أو أنه شريكه، تعالى الله عما يقولون، فيسأله وهو يعلم أنه لم يقع منه ما يسأله عنه ولكن لتوبيخ من كذب عليه فيقول له: " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك " أي تعاليت أن يكون معك شريك " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " أي ليس هذا يستحقه أحد سواك " إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " وهذا تأدب عظيم في الخطاب والجواب " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " [ أي ما قلت غير ما أمرتني عليه (2) ] حين أرسلتني إليهم وأنزلت علي
__________
(1) سورة المائدة 116 - 118 (2) من ا (*)
الكتاب الذي كان يتلى عليهم.
ثم فسر ما قال لهم بقوله: " أن اعبدوا الله ربي وربكم " أي خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى " أي رفعتني إليك حين أرادوا قتلي وصلبي فرحمتني وخلصتني منهم وألقيت شبهي على أحدهم حتى انتقموا منه فلما كان ذلك " كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد ".
ثم قال على وجه (1) التفويض إلى الرب عزوجل والتبرى من أهل النصرانية: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " أي وهم يستحقون ذلك " وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وهذا التفويض والاسناد إلى المشيئة بالشرط لا يقتضي وقوع ذلك، ولهذا قال: " فإنك أنت العزيز الحكيم "
ولم يقل الغفور الرحيم.
وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الامام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بهذه الآية [ الكريمة ] (2) ليلة حتى أصبح: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وقال: إني سألت ربي عزوجل الشفاعة لامتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئا.
وقال: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين.
لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون.
وله من في السموات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون.
يسبحون الليل والنهار لا يفترون " (3).
__________
(1) ا: على سبيل.
(2) ليست في ا.
(3) سورة الانبياء 16 - 20 (*)
وقال تعالى " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار.
خلق السموات والارض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (1) ".
وقال تعالى: " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين.
سبحان رب السموات والارض رب العرش عما يصفون (2) ".
وقال تعالى: " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا (3) ".
وقال تعالى: " قل هو الله.
الله الصمد.
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ".
وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى: " شتمنى ابن آدم ولم يكن له ذلك، يزعم أن لي ولدا وأنا الاحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد ".
وفي الصحيح أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا وهو يزرقهم ويعافيهم ".
ولكن ثبت في الصحيح أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ: " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد (4) ".
__________
(1) سورة الزمر 4، 5.
(2) سورة الزخرف 81، 82.
(3) سورة الاسراء 111 (4) سورة هود 102.
(*)
وهكذا قوله تعالى: " وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير (1) ".
وقال تعالى: " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ (2) " وقال تعالى: " قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.
متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (3) " وقال تعالى: " فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " (4)
__________
(1) سورة الحج آية: 48.
(2) سورة لقمان آية: 24.
(3) سورة يونس آية: 68.
(4) آخر سورة الطارق.
(*)
ذكر منشأ عيسى بن مريم عليهما السلام
ومرباه في صغره وصباه، وبيان بدء الوحى إليه من الله تعالى قد تقدم أنه ولد ببيت لحم قريبا من بيت المقدس.
وزعم وهب بن منبه أنه ولد بمصر وأن مريم سافرت هي ويوسف ابن يعقوب النجار وهي راكبة على حمار ليس بينهما وبين الاكاف شئ.
وهذا لا يصح.
والحديث الذي تقدم ذكره دليل على أن مولده كان ببيت لحم، كما ذكرنا، ومهما عارضه فباطل.
وذكر وهب بن منبه أنه لما خرت الاصنام يومئذ في مشارق الارض ومغاربها، وأن الشياطين حارت في سبب ذلك حتى كشف لهم إبليس الكبير أمر عيسى فوجدوه في حجر أمه والملائكة محدقة به، وأنه ظهر نجم عظيم في السماء وأن ملك الفرس أشفق من ظهوره فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا: هذا لمولد عظيم في الارض.
فبعث رسله ومعهم ذهب ومر ولبان هدية إلى عيسى، فلما قدموا الشام سألهم ملكها عما أقدمهم فذكروا له ذلك، فسأل عن ذلك الوقت فإذا قد ولد فيه عيسى بن مريم ببيت المقدس واشتهر أمره بسبب كلامه [ في المهد (1) ] فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله إذا انصرفوا عنه، فلما وصلوا إلى مريم بالهدايا ورجعوا قيل لها إن رسل
__________
(1) ليست في ا.
(*)
[ ملك (1) ] الشام إنما جاءوا ليقتلوا ولدك.
فاحتملته فذهبت به إلى مصر، فأقامت به حتى بلغ عمره اثنتى عشرة سنة، وظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره.
فذكر منها أن الدهقان الذي نزلوا عنده افتقد مالا من داره وكانت داره لا يسكنها إلا الفقراء والضعفاء والمحاويج
فلم يدر من أخذها، وعز ذلك على مريم عليها السلام وشق على الناس وعلى رب المنزل وأعياهم أمرها، فلما رأى عيسى عليه السلام ذلك عمد إلى رجل أعمى وآخر مقعد من جملة من هو منقطع إليه فقال للاعمى: احمل هذا المقعد وانهض به.
فقال: إني لا أستطيع ذلك.
فقال بلى كما فعلت أنت وهو حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة من الدار.
فلما قال ذلك صدقاه فيما قال وأتيا بالمال فعظم عيسى في أعين الناس وهو صغير جدا.
ومن ذلك أن ابن الدهقان عمل ضيافة للناس بسبب طهور أولاده، فلما اجتمع الناس وأطعمهم ثم أراد أن يسقيهم شرابا يعنى خمرا، كما كانوا يصنعون في ذلك الزمان لم يجد في جراره [ شيئا (1) ] فشق ذلك عليه، فلما رأى عيسى ذلك منه قام فجعل يمر على تلك الجرار ويمر يده على أفواهها فلا يفعل بجرة منها ذلك إلا امتلات شرابا من خيار الشراب، فتعجب الناس من ذلك جدا وعظموه وعرضوا عليه وعلى أمه مالا جزيلا فلم يقبلاه وارتحلا قاصدين بيت المقدس.
والله أعلم.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا عثمان بن ساج وغيره، عن موسى بن وردان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، وعن مكحول عن أبي هريرة
__________
(1) ليست في ا (*)
قال: إن عيسى بن مريم أول ما أطلق الله لسانه بعد الكلام الذي تكلم به وهو طفل، فمجد الله تمجيدا لم تسمع الآذان بمثله لم يدع شمسا ولا قمرا ولا جبلا ولا نهرا ولا عينا إلا ذكره في تمجيده فقال: اللهم أنت القريب في علوك، المتعال في دنوك، الرفيع على كل شئ
من خلقك، أنت الذي خلقت سبعا في الهواء بكلماتك مستويات طباقا أجبن وهن دخان من فرقك فأتين طائعات لامرك، فيهن ملائكتك يسبحون قدسك لتقديسك وجعلت فيهن نورا على سواد الظلام وضياء من ضوء الشمس بالنهار، وجعلت فيهن الرعد المسبح بالحمد، فبعزتك يجلو ضوء ظلمتك وجعلت فيهن مصابيح يهتدى بهن في الظلمات الحيران، فتباركت اللهم في مفطور سمواتك وفيما دحوت من أرضك دحوتها على الماء فسمكتها على تيار الموج الغامر، فأذللتها إذلال التظاهر، فذل لطاعتك صعبها واستحيا لامرك أمرها وخضعت لعزتك أمواجها، ففجرت فيها بعد البحور الانهار ومن بعد الانهار الجداول الصغار ومن بعد الجداول ينابيع العيون الغزار، ثم أخرجت منها الانهار والاشجار والثمار ثم جعلت على ظهرها الجبال فوتدتها أوتادا على ظهر الماء، فأطاعت أطوادها وجلمودها.
فتباركت اللهم ! فمن يبلغ بنعته نعتك أم من يبلغ بصفته صفتك ؟ تنشر السحاب وتفك الرقاب وتقضى الحق وأنت خير الفاصلين، لا إله إلا أنت سبحانك أمرت أن نستغفرك من كل ذنب، لا إله إلا أنت سبحانك سترت السموات عن الناس، لا إله إلا أنت سبحانك إنما يخشاك من عبادك الاكياس، نشهد أنك لست بإله استحدثناك، ولا رب
يبيد ذكره، ولا كان معك شركاء فندعوهم ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشك فيك، نشهد أنك أحد صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوا أحد ".
وقال إسحاق بن بشر: عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن
عباس، أن عيسى بن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلا حتى بلغ ما يبلغ الغلمان.
ثم أنطقه الله بعد ذلك الحكمة والبيان فأكثر اليهود فيه وفي أمه من القول، وكانوا يسمونه ابن البغية وذلك قوله تعالى: " وكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ".
قال: فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتاب، فجعل لا يعلمه المعلم شيئا إلا بدره إليه، فعلمه أبا جاد فقال عيسى: ما أبو جاد ؟ فقال المعلم: لا أدرى فقال عيسى: كيف تعلمني ما لا تدري.
فقال المعلم: إذا فعلمني فقال له عيسى: فقم من مجلسك.
فقام فجلس عيسى مجلسه فقال: سلنى فقال المعلم: فما أبو جاد ؟ فقال عيسى: الالف آلاء الله.
والباء بهاء الله.
والجيم بهجة الله وجماله.
فعجب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أبا جاد.
ثم ذكر أن عثمان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه على كل كلمة بحديث طويل موضوع لا يسأل عنه ولا يتمادى ! وهكذا روى ابن عدى من حديث إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل ابن يحيى، عن ابن أبي مليكة، عن ابن مسعود، عن مسعر بن كدام
عن عطية، عن أبي سعيد، رفع الحديث في دخول عيسى إلى الكتاب وتعليمه المعلم معنى حروف أبي جاد وهو مطول لا يفرح به.
ثم قال ابن عدى: وهذا الحديث باطل بهذا الاسناد لا يرويه غير إسماعيل.
وروى ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة قال كان عبد الله بن عمر يقول: كان عيسى بن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان فكان يقول لاحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك ؟ فيقول: نعم
فيقول: خبأت لك كذا وكذا.
فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها أطعمينى ما خبأت لي.
فتقول: وأي شئ خبأت لك ؟ فيقول: كذا وكذا.
فتقول له: من أخبرك ؟ فيقول عيسى بن مريم.
فقالوا: والله لئن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسدنهم.
فجمعوهم في بيت وأغلقوا عليهم، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم فسمع ضوضاءهم في بيت فسأل عنهم فقالوا: إنما هؤلاء قردة وخنازير.
فقال: اللهم كذلك.
فكانوا كذلك.
رواه ابن عساكر.
وقال إسحق بن بشر، عن جويبر، ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاما من الله، ففشا ذلك في اليهود وترعرع عيسى، فهمت به بنو إسرائيل، فخافت أمه عليه، فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر، فذلك قوله تعالى: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " وقد اختلف السلف والمفسرون في المراد بهذه الربوة التي ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار ومعين، وهذه صفة غريبة الشكل، وهي أنها
ربوة وهو المكان المرتفع من الارض الذي أعلاه مستو يقر عليه وارتفاعه متسع، ومع علوه فيه عيون الماء المعين، وهو الجارى السارح على وجه الارض فقيل المراد المكان الذي ولدت فيه المسيح وهو نخلة (1) بيت المقدس، ولهذا " ناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا " وهو النهر الصغير في قول جمهور السلف، وعن ابن عباس بإسناد جيد أنها أنهار دمشق فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق.
وقيل ذلك بمصر كمازعمه من زعمه من أهل الكتاب ومن تلقاه عنهم والله
أعلم.
وقيل هي الرملة.
وقال إسحق بن بشر: قال لنا إدريس عن جده وهب بن منبه، قال إن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا [ قال فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار حتى جاء بهما إلى إيليا (2) ] وأقام بها حتى أحدث الله له الانجيل وعلمه التوراة وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الاسقام والعلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم وتحدث الناس بقدومه وفزعوا لما كان يأتي من العجائب، فجعلوا يعجبون منه فدعاهم إلى الله ففشا فيهم أمره.
بيان نزول الكتب الاربعة ومواقيتها وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية ابن صالح، عمن حدثه قال: " أنزلت التوراة على موسى في ست ليال خلون من شهر رمضان، ونزل الزبور على داود في اثنتي عشرة ليلة
__________
(1) ا: محلة بيت المقدس.
(2) سقطت من ا (*)
خلت من شهر رمضان، وذلك بعد التوراة بأربعمائة سنة واثنتين وثمانين سنة، وأنزل الانجيل على عيسى بن مريم في ثمانية عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بألف عام وخمسين عاما، وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين من شهر رمضان.
وقد ذكرنا في التفسير عند قوله: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " الاحاديث الواردة في ذلك، وفيها أن الانجيل أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
وذكر ابن جرير في تاريخه أنه أنزل عليه وهو ابن ثلاثين سنة،
ومكث حتى رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقال إسحاق بن بشر: وأنبأنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، ومقاتل عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة قال: أوحى الله عزوجل إلى عيسى بن مريم: يا عيسى جد في أمرى ولا تهن، واسمع وأطع يابن الطاهرة البكر البتول، إنك من غير فحل، وأنا خلقتك آية للعالمين، إياي فاعبد وعلي فتوكل، خذ الكتاب بقوة فسر لاهل السريانية بلغ من بين يديك أنى أنا [ الحق ] (1) الحي القائم الذي لا أزول، صدقوا النبي الامي العربي صاحب الجمل والتاج - وهي العمامة - والمدرعة والنعلين والهراوة - وهي القضيب - الانجل العينين الصلت الجبين الواضح الخدين، الجعد الرأس، الكث اللحية، المقرون الحاجبين، الافنى
__________
(1) ليست في ا.
(*) (27 - قصص الانبياء 2)
الانف، المفلج الثنايا، البادى العنفقة، الذي كأن عنقه إبريق فضة وكأن الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته إلى سرته تجرى كالقضيب، ليس على بطنه ولا على صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا التفت التفت جميعا وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر وينحدر من صبب، عرقه في وجهه كاللؤلؤ وريح المسك ينفح منه، ولم ير قبله ولا بعده مثله، الحسن القامة الطيب الريح، نكاح النساء ذا النسل القليل، إنما نسله من مباركة، لها بيت يعنى في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب، تكفله يا عيسى في آخر الزمان كما كفل زكريا أمك،
له منها فرخان مستشهدان وله عندي منزلة ليست لاحد من البشر، كلامه القرآن ودينه الاسلام وأنا السلام، طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيامه وسمع كلامه.
قال عيسى: يا رب وما طوبى ؟ قال: غرس شجرة أنا غرستها بيدى، فهي للجنان كلها أصلها من رضوان وماؤها من تسنيم وبردها برد الكافور وطممها طعم الزنجبيل [ وريحها ريح المسك (1) ] من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا.
قال عيسى: يا رب اسقنى منها.
قال: حرام على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذلك النبي، وحرام على الامم أن يشربوا منها حتى تشرب (2) منها أمة ذلك النبي.
قال: يا عيسى، أرفعك إلي.
قال رب ولم ترفعني ؟ قال: أرفعك ثم أهبطك
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: تشهد.
(*)
في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب ولتعينهم على قتال (1) اللعين الدجال، أهبطك في وقت صلاة ثم لا تصلى بهم لانها مرحومة ولا نبي بعد نبيهم.
وقال هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، أن عيسى قال: يا رب أنبئني عن هذه الامة المرحومة.
قال: أمة أحمد، هم علماء حكماء (2) كأنهم أنبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله.
يا عيسى هم أكثر سكان الجنة، لانه لم تذل ألسن قوم قط بلا إله إلا الله كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قوم قط بالسجود كما ذلت به رقابهم.
رواه ابن عساكر.
وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن بديل العقيلى، عن عبد الله بن عوسجة قال: أوحى الله إلى عيسى بن مريم: أنزلني من نفسك كهمك، واجعلني ذخرا لك في معادك، وتقرب إلي بالنوافل أحبك ولا تول غيري فأخذ لك، اصبر على البلاء وارض بالقضاء، وكن لمسرتي فيك، فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، وكن مني قريبا وأحي ذكرى بلسانك، ولتكن مودتي في صدرك، تيقظ من ساعات الغفلة واحكم (3) في لطيف الفطنة، وكن لي راغبا راهبا وأمت قلبك في الخشية [ لى ] (4) وراع الليل لحق مسرتي واظم نهارك ليوم الري عندي، نافس في الخيرات جهدك، واعترف بالخير حيث توجهت، وقم في الخلائق بنصيحتي، واحكم في عبادي بعدلي، فقد نزلت عليك شفاء وسواس (5)
__________
(1): على قتل.
(2) ا: حلماء.
(3) ا: واحلم لي.
(4) ليست في ا.
(5) ا: وساوس (*)
الصدور من مرض النسيان وجلاء الابصار من غشاء الكلال ولا تكن حلسا كأنك مقبوض وأنت حي تنفس.
يا عيسى [ بن مريم ] (1) ما آمنت بي خليقة إلا خشعت، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي فأشهدك أنها آمنة من عقابي ما لم تغير أو تبدل سنتى.
يا عيسى بن مريم البكر البتول ابك على نفسك أيام الحياة بكاء من ودع الاهل وقلا الدنيا وترك اللذات [ لاهلها ] (1) وارتفعت رغبته فيما عند إلهه، وكن في ذلك تلين الكلام وتفشى السلام، وكن يقظان إذا نامت عيون الابرار، حذار ما هو آت من أمر المعاد وزلازل شدائد الاهوال، قبل أن لا ينفع أهل ولا مال، واكحل عينك بملول (2) الحزن
إذا ضحك البطالون، وكن في ذلك صابرا محتسبا، وطوبى لك إن نالك ما وعدت الصابرين ارج من الدنيا بالله يوم يبعثون (3) وذق مذاقة ما قد حرب منك أين طعمه، وما لم يأتك كيف لذته، فرح من الدنيا بالبلغة، وليكفك منها الخشن الجئيب (4)، قد رأيت إلى ما يصير، اعمل على حساب فإنك مسئول، لو رأت عيناك (5) ما أعددت لاوليائي الصالحين ذاب قلبك وزهقت نفسك.
وقال أبو داود في كتاب القدر: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري، عن ابن طاووس، عن أبيه قال: لقى عيسى بن مريم إبليس فقال: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب
__________
(1) ليست في ا.
(2) كذا، والملة: الرماد الحار (3) كذا في ا.
وفي ط: يوم بيوم.
(4) الجئيب: الغليظ (5) ا: عينك.
(*)
لك ؟ قال إبليس: فأوف (1) بذروة [ هذا ] (2) الجبل فتردى منه فانظر هل تعيش أم لا.
فقال ابن طاووس: عن أبيه: فقال عيسى: أما علمت أن الله قال: لا يجربنى عبدى فإنى أفعل ما شئت.
وقال الزهري: إن العبد لا يبتلى ربه ولكن الله يبتلى عبده.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة، أنبأنا سفيان، عن عمرو، عن طاووس قال: أتى الشيطان عيسى بن مريم فقال: أليس تزعم أنك صادق ؟ فأت هوة (3) فألق نفسك.
قال: ويلك أليس قال: يا بن آدم لا تسألني هلاك نفسك فإني أفعل ما أشاء ! وحدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا حسين بن طلحة، سمعت خالد بن يزيد، قال: تعبد الشيطان مع عيسى عشر سنين أو سنتين،
أقام يوما على شفير جبل فقال الشيطان: أرأيت إن ألقيت نفسي هل يصيبني إلا ما كتب لي.
قال: إني لست بالذي أبتلى ربي ولكن ربي إذا شاء ابتلاني.
وعرفه أنه الشيطان ففارقه.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا شريح بن يونس، حدثنا على ابن ثابت، عن الخطاب بن القاسم، عن أبي عثمان، كان عيسى عليه السلام يصلى على رأس جبل، فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شئ بقضاء وقدر ؟ قال: نعم قال: ألق نفسك من هذا الجبل وقل قدر علي.
فقال: يالعين ! الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله عزوجل.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا الفضل بن موسى البصري،
__________
(1) المطبوعة: فارق.
(2) ليست في ا.
(3) ا: هذه (*)
حدثنا إبراهيم بن بشار (1) سمعت سفيان بن عيينة يقول: لقى عيسى بن مريم إبليس فقال له إبليس: يا عيسى بن مريم الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تكلمت في المهد صبيا، ولم يتكلم فيه أحد قبلك.
قال: بل الربوبية للاله الذي أنطقني ثم يميتني ثم يحيينى.
قال: فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحيى الموتى.
قال: بل الربوبية لله الذي يحيى ويميت من أحييت ثم يحييه.
قال: والله إنك لاله في السماء وإله في الارض.
قال: فصكه جبريل صكة بجناحيه فما نباها دون قرون الشمس.
ثم صكه أخرى بجناحيه فما نباها دون العين الحامية، ثم صكه أخرى فأدخله بحار السابعة فأساخه وفي رواية فأسلكه فيها، حتى وجد طعم الحمأة فخرج منها وهو يقول: ما لقى أحد من أحد ما لقيت منك يابن مريم.
وقد روى نحو هذا بأبسط منه من وجه آخر، فقال الحافظ أبو بكر
الخطيب: أخبرني أبو الحسن بن رزقويه، أنبأنا أبو بكر أحمد بن سيدي.
حدثنا أبو محمد الحسن بن علي القطان، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، أنبأنا على بن عاصم، حدثني أبو سلمة سويد عن بعض أصحابه، قال: صلى عيسى ببيت المقدس فانصرف، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له: إنه لا ينبغي لك أن تكون عبدا.
فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه، فجعل لا يتخلص منه فقال له فيما يقول: لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبدا.
قال: فاستغاث عيسى بربه، فأقبل جبريل وميكائيل فلما رآهما إبليس كف، فلما استقر معه على العقبة اكتنفا عيسى وضرب جبريل إبليس بجناحه
__________
(1) ا: ابن يسار.
محرقة.
وانظر ميزان الاعتدال 1 / 24.
(*)
فقذفه في بطن الوادي.
قال: فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك.
فقال لعيسى: قد أخبرتك أنه لا ينبغى أن تكون عبدا، إن غضبك ليس بغضب عبد، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت ولكن أدعوك لامر هولك، آمر الشياطين فليطيعوك فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك، أما إني لا أقول أن تكون إلها ليس معه إله ولكن الله يكون إلها في السماء وتكون أنت إلها في الارض.
فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه وصرخ صرخة شديدة، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل فكف إبليس، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس، ثم ضربه ضربة أخرى فاقبل إبليس يهوى ومر عيسى وهو بمكانه فقال: يا عيسى لقد لقيت فيك اليوم تعبا شديدا فرمى به في عين الشمس، فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية قال: فغطوه
فجعل كلما خرج (1) غطوه في تلك الحمأة قال: والله ما عاد إليه بعد.
قال وحدثنا إسماعيل العطار، حدثنا أبو حذيفة قال: واجتمع إليه شياطينه فقالوا: سيدنا لقد (2) لقيت تعبا قال: إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل، وسأضل به بشرا كثيرا وأبث فيهم أهواء مختلفة وأجعلهم شيعا ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله.
قال: وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنا ناطقا بذكر نعمته على عيسى فقال: " يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس " يعني إذ قويتك بروح القدس يعني جبريل " تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل
__________
(1) المطبوعة: كلما صرخ.
وهو تحريف صوابه من ا.
(3) المطبوعة: قد.
(*)
وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير " الآية كلها وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعوانا ترضى بهم وصحابة وأعوانا يرضون بك هاديا وقائدا إلى الجنة، فذلك فاعلم خلقان عظيمان من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي.
وسيقول لك بنو إسرائيل صمنا فلم يتقبل صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تقبل صدقاتنا وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاؤنا.
فقل لهم: ولم ذاك وما الذي يمنعنى ؟ أن ذات يدى قلت ؟ أو ليس خزائن السموات والارض بيدى أنفق منها كيف أشاء.
أو إن البخل يعترينى (1)، أو لست أجود من سئل (2) وأوسع من أعطى.
أو أن رحمتى ضاقت ؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتى.
ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غروا (3) أنفسهم بالحكمة
التي تورث في قلوبهم ما استأثروا (4) به الدنيا أثرة على الآخرة لعرفوا من أين أتوا (5)، وإذا لايقنوا أن أنفسهم هي أعدى الاعداء لهم، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالاطعمة الحرام [ وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربوني ويستحلون محارمي (6) ] وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها، يا عيسى إنما أجزى عليها أهلها، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الانبياء ! ازددت عليهم غضبا.
__________
(1) المطبوعة: لا يعترينى.
وهو تحريف، صوابه من ا (2) المطبوعة: من سأل.
وهو تحريف شنيع.
(3) الاصل: عدوا محرفة.
(4) ا: فاستأثروا.
(5) المطبوعة: أوتوا.
محرفة.
(6) سقط من ا.
(*)
يا عيسى وقضيت يوم خلقت السموات والارض أنه من عبدنى وقال فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار ورفقاءك في المنازل وشركاءك في الكرامة، وقضيت يوم خلقت السموات والارض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الاسفل من النار.
وقضيت يوم خلقت السموات والارض أنى مثبت هذا الامر على يدى عبدى محمد وأختم به الانبياء والرسل، ومولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الاسواق ولا يتزين (1) بالفحش ولا قوال بالخنا، أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم، وأجعل التقوى ضميره والحكم معقوله والوفاء طبيعته والعدل سيرته والحق شريعته والاسلام ملته، اسمه أحمد، أهدى به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة وأغنى به بعد العائلة، وأرفع به بعد الضعة، أهدى
به وأفتح به بين آذان صم وقلوب غلف وأهواء مختلفة متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إخلاصا لاسمي وتصديقا لما جاءت به الرسل، ألهمهم التسبيح والتقديس والتهليل في مساجدهم ومجالسهم وبيوتهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجودا، ويقاتلون في سبيلى صفوفا وزحوفا، قربانهم دماؤهم وأناجليهم في صدورهم وقربانهم في بطونهم، رهبان بالليل ليوث في النهار، ذلك فضلى أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.
وسنذكر ما يصدق كثيرا من هذا السياق مما سنورده من سورتي المائدة والصف إن شاء الله وبه الثقة.
__________
(1) المطبوعة: ولا بزر.
(*)
وقد روى أبو حذيفة إسحق بن بشر بأسانيده عن كعب الاحبار ووهب بن منبه وابن عباس وسلمان الفارسي، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: لما بعث عيسى بن مريم وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون من بني إسرائيل يعجبون منه ويستهزئون به فيقولون: ما أكل فلان البارحة وما ادخر في منزله ؟ فيخبرهم، فيزداد المؤمنون إيمانا والكافرون والمنافقون شكا (1) وكفرانا.
وكان عيسى مع ذلك ليس له منزل يأوى إليه، إنما يسيح في الارض ليس له قرار ولا موضع يعرف به، فكان أول ما أحيا من الموتى أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكى فقال لها: مالك، أيتها المرأة ؟ فقالت ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها
الله لي فأنظر إليها.
فقال لها عيسى: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت ؟ قالت: نعم.
قالوا فصلى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر فنادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجى.
قال: فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عنى ؟ فقالت: لما جاءتني الصيحة الاولى بعث الله لي ملكا فركب خلقي ثم (2) جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلي روحي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عينى من مخافة القيامة: ثم أقبلت على أمها فقالت: يا أماه (3) ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين يا أماه اصبري
__________
(1) ا: شركا.
(2) ا: فلما جاءتني.
(3): يا أمتاه.
(*)
واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت.
فدعا ربه فقبضها إليه واستوت عليها الارض.
فبلغ ذلك اليهود فازدادوا [ عليه ] (1) غضبا.
وقدمنا في عقب قصة نوح أن بني إسرائيل سألوه أن يحيى لهم سام ؟ ؟ ابن نوح فدعا الله عزوجل وصلى الله فأحياه الله لهم فحدثهم عن السفينة وأمرها ثم دعا فعاد ترابا.
وقد روى السدى عن أبي صالح وأبي مالك، عن ابن عباس في خبر ذكره وفيه أن ملكا من ملوك بني إسرائيل مات وحمل على سريره فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عزوجل فأحياه الله عزوجل، فرأى الناس أمرا هائلا ومنظرا عجيبا.
وقال الله تعالى وهو أصدق القائلين: " إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فيكون طيرا بإذني وإذ تبرئ الاكمه والابرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون (2).
__________
(1) ليست في ا.
(2) سورة المائدة 110، 111.
(*)
يذكره تعالى بنعمته عليه وإحسانه إليه في خلقه إياه من غير أب، بل من أم بلا ذكر، وجعله له آية للناس ودلالة على كمال قدرته تعالى ثم إرساله بعد هذا كله " وعلى والدتك " في اصطفائها واختيارها لهذه النعمة العظيمة ؟ ؟ وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون ولهذا قال " إذ أيدتك بروح القدس " وهو جبريل بإلقاء روحه إلى أمه وقرنه معه في حال رسالته ومدافعته عنه لمن كفر به " تكلم الناس في المهد وكهلا " أي تدعو الناس إلى الله في حال صغرك في مهدك وفي كهولتك " وإذ علمتك الكتاب والحكمة " أي الخط والفهم.
نص عليه بعض السلف " والتوراة والانجيل " وقوله: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني " أي تصوره وتشكله من الطين على هيئة الطير عن أمر الله له بذلك " فتنفخ فيها تكون طيرا بإذني " أي بأمرى يؤكد تعالى بذكر الاذن له في ذلك لرفع التوهم.
وقوله " وتبرئ الاكمه " قال بعض السلف وهو الذي يولد أعمى ولا سبيل لاحد من الحكماء إلى مداواته " والابرص " هو الذي لا طب فيه بل قد مرض بالبرص وصار داؤه عضالا " وإذ تخرج الموتى " أي من قبورهم أحياء بإذني.
وقد تقدم ما فيه دلالة على وقوع ذلك مرارا متعددة بما فيه كفاية.
وقوله " وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين " وذلك حين أرادوا صلبه فرفعه الله إليه وأنقذه من بين أظهرهم صيانة لجنابه الكريم عن الاذى وسلامة له من الردى.
وقوله: " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " قيل المراد بهذا الوحى وحي إلهام أي أرشدهم الله إليه ودلهم عليه كما قال " وأوحى ربك إلى النحل (1) " " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم (2) " وقيل المراد وحي بواسطة الرسول وتوفيق في قلوبهم لقبول الحق ولهذا استجابوا قائلين " آمنا واشهد بأننا مسلمون ".
وهذا من جملة نعم الله على عبده ورسوله عيسى بن مريم أن جعل له أنصارا وأعوانا ينصرونه ويدعون معه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى لعبده محمد صلى الله عليه وسلم " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (2) " وقال تعالى: " ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أنى قد
جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون.
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد
__________
(1) سورة النحل 68.
(2) سورة القصص 7.
(3) سورة الانفال 62، 63.
(*)
بأنا مسلمون.
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (1) ".
كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان، فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بآيات بهرت الابصار وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه وعاينوا ما عاينوا من الامر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا عمن أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقا له، أسلموا سراعا ولم يتلعثموا.
وهكذا عيسى بن مريم بعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنى لحكيم إبراء الاكمه الذي هو أسوأ حالا من الاعمى، والابرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره ؟ هذا مما يعلم
كل أحد معجزة دالة على صدق من قامت به وعلى قدرة من أرسله.
وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فلفظه معجز تحدى به الانس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال، فإن لم يفعلوا
__________
(1) سورة آل عمران 48 - 54 (*)
ولن يفعلوا وما ذاك إلا لانه كلام الخالق عزوجل، والله تعالى لا يشبهه شئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
* * * والمقصود أن عيسى عليه السلام لما أقام عليهم الحجج والبراهين استمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم، فانتدب له من بينهم طائفة صالحة [ فكانوا ] (1) له أنصارا وأعوانا قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته، وذلك حين هم به بنو إسرائيل ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان، فعزموا على قتله وصلبه فأنقذه الله منهم ورفعه إليه من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد اصحابه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى وهم في ذلك غالطون وللحق مكابرون، وسلم لهم كثير من النصارى ما ادعوه، وكلا الفريقين في ذلك مخطئون.
قال تعالى: " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " وقال تعالى: " وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه
أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين.
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى للاسلام والله لا يهدي القوم الظالمين.
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون " إلى أن قال بعد ذلك: " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن
__________
(2) ليست في ا.
(*)
أنصار الله.
فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين (1) ".
فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل وقد قام فيهم خطيبا فبشرهم بخاتم الانبياء الآتى بعده ونوه باسمه وذكر لهم صفته ليعرفوه ويتابعوه إذا شاهدوه، إقامة للحجة عليهم وإحسانا من الله إليهم كما قال تعالى: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (2) ".
قال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالو: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك.
قال: " دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام ".
وقد روى عن العرباض بن سارية وأبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وفيه: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى وذلك أن إبراهيم لما بنى الكعبة قال " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " الآية ولما انتهت النبوة في بني إسرائيل إلى عيسى قام فيهم خطيبا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم وأنها بعده في النبي العربي الامي خاتم الانبياء على
__________
(1) سورة الصف 14 (2) سورة الاعراف 157.
(*)
الاطلاق أحمد، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام.
قال الله تعالى: " فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين " يحتمل عود الضمير إلى عيسى عليه السلام ويحتمل عوده إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الاسلام وأهله ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة فقال: " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله " أي من يساعدنى في الدعوة، إلى الله " قال الحواريون نحن أنصار الله " وكان ذلك في قرية يقال لها الناصرة فسموا بذلك النصارى قال الله تعالى: " فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة " يعنى لما دعا عيسى بني إسرائيل وغيرهم إلى الله تعالى منهم من آمن ومنهم من كفر، وكان ممن آمن به أهل أنطاكية بكمالهم فيما ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير بعث إليهم رسلا ثلاثة، أحدهم شمعون الصفا فآمنوا واستجابوا (1) وليس هؤلاء هم المذكورون في سورة يس
لما تقدم تقريره في قصة أصحاب القرية، وكفر آخرون من بني إسرائيل وهم [ جمهور ] (2) اليهود فأيد الله من آمن به على من كفر فيما بعد وأصبحوا ظاهرين عليهم قاهرين لهم كما قال تعالى: " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك
__________
(1) ا: واستعجلوا.
(2) ليست في ا.
(*) (28 - قصص الانبياء 2)
فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " الآية فكل من كان إليه أقرب كان غالبا (1) لمن دونه، ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذي لا شك فيه، من أنه عبد الله ورسوله كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه وأطروه وأنزلوه فوق ما أنزله الله به.
ولما كان النصارى أقرب في الجملة مما ذهب إليه اليهود [ فيه ] (2) عليهم لعائن الله، كان النصارى قاهرين لليهود في أزمان الفترة إلى زمن الاسلام وأهله.
__________
(1) ط: كان عاليا.
(2) من ا.
(*)
ذكر خبر المائدة قال الله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين.
قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير
الرازقين.
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ".
قد ذكرنا في التفسير الآثار الواردة في نزول المائدة عن ابن عباس وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وغيرهم من السلف.
ومضمون ذلك: أن عيسى عليه السلام أمر الحواريين بصيام ثلاثين يوما، فلما أتموها سألوا من عيسى إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله قد تقبل صيامهم وأجابهم إلى طلبتهم، وتكون لهم عيدا يفطرون عليها يوم فطرهم وتكون كافية لاولهم وآخرهم لغنيهم وفقيرهم.
فوعظهم عيسى عليه السلام في ذلك وخاف عليهم أن لا يقوموا بشكرها ولا يؤدوا حق شروطها فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من ربه عزوجل.
فلمالم يقلعوا عن ذلك قام إلى مصلاه ولبس مسحا من شعر وصف بين قدميه وأطرق رأسه وأسبل عينيه بالبكاء وتضرع إلى الله في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا.
فأنزل الله تعالى المائدة من السماء والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين، وجعلت تدنو قليلا قليلا، وكلما دنت سأل عيسى ربه عزوجل أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها بركة وسلامة.
فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهي مغطاة بمنديل فقام عيسى يكشف عنها وهو يقول: " بسم الله خير الرازقين " فإذا عليها سبعة من الحيتان وسبعة أرغفة.
ويقال: وخل ويقال: ورمان وثمار، ولها رائحة عظيمة جدا، قال الله لها كوني فكانت.
ثم أمرهم بالاكل منها، فقالوا: لا نأكل حتى تأكل.
فقال: إنكم الذين ابتدأتم السؤال لها.
فأبوا أن يأكلوا منها ابتداء، فأمر الفقراء والمحاويج والمرضى والزمنى وكانوا قريبا من ألف وثلاثمائة فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أو آفة أو مرض مزمن، فندم الناس على ترك الاكل منها لما رأوا من إصلاح حال أولئك.
ثم قيل إنها كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها، يأكل آخرهم كما يأكل أولهم حتى [ قيل ] (1) إنها (2) كان يأكل منها نحو سبعة آلاف.
ثم كانت تنزل يوما بعد يوم، كما كانت ناقة صالح يشربون لبنها يوما بعد يوم.
ثم أمر الله عيسى أن يقصرها على الفقراء أو المحاويج دون الاغنياء.
فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك، فرفعت بالكلية ومسخ الذين تكلموا في ذلك خنازير.
وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا، حدثنا الحسن بن قزعة
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: إنه.
(*)
الباهلي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن خلاس، عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نزلت المائدة من السماء خبز ولحم وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير.
ثم رواه ابن جرير عن بندار، عن ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار موقوفا.
وهذا أصح.
وكذا رواه من طريق سماك، عن رجل من بني عجل، عن عمار موقوفا.
وهو الصواب والله أعلم.
وخلاس عن عمار منقطع، فلو صح هذا الحديث مرفوعا لكان فيصلا في هذه القصة، فإن العلماء اختلفوا في المائدة: هل نزلت أم لا ؟ فالجمهور أنها نزلت كما دلت عليه هذه الآثار كما هو المفهوم من ظاهر سياق القرآن ولا سيما قوله: " إني منزلها عليكم " كما قرره ابن جرير والله أعلم.
وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح إلى مجاهد وإلى الحسن بن أبي الحسن البصري، أنهما قالا: لم تنزل وإنهم أبوا نزولها حين قال " فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين " ولهذا قيل إن النصارى لا يعرفون خبر المائدة وليس مذكورا في كتابهم، مع أن خبرها مما تتوفر الدواعى على نقله.
والله أعلم.
وقد تقصينا الكلام على ذلك في التفسير فليكتب من هناك، ومن أراد مراجعته فلينظره من ثم.
ولله الحمد والمنة.
فصل قال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثنا رجل سقط اسمه، حدثنا حجاج [ بن محمد ] (1) حدثنا أبو هلال محمد بن سليمان، عن بكر بن عبد الله المزني قال: فقد الحواريون نبيهم عيسى فقيل لهم توجه نحو البحر، فانطلقوا يطلبونه فلما انتهوا إلى البحر إذا هو يمشى على الماء يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى، وعليه كساء مرتد بنصفه ومؤتزر بنصفه، حتى انتهى إليهم فقال له بعضهم، قال أبو هلال ظنت أنه من أفاضلهم: ألا أجئ إليك يا نبي الله ؟ قال بلى.
قال: فوضع إحدى رجليه على الماء ثم ذهب ليضع الاخرى فقال: أوه غرقت يا نبي الله.
فقال: أرنى يدك يا قصير الايمان، لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء !
ورواه أبو سعيد ابن الاعرابي، عن إبراهيم بن أبي الجحيم، عن سليمان ابن حرب، عن أبي هلال عن بكر بنحوه.
ثم قال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيان (1)، حدثنا إبراهيم بن الاشعث، عن الفضيل بن عياض، قال قيل لعيسى بن مريم: يا عيسى بأي شئ تمشي على الماء ؟ قال: بالايمان واليقين.
قالوا: فإنا آمنا كما آمنت وأيقنا كما أيقنت.
قال: فامشوا إذا.
قال: فمشوا معه في الموج فغرقوا فقال لهم [ عيسى ] (2) ما لكم ؟ فقالوا: خفنا الموج قال: ألا خفتم رب الموج ! قال: فأخرجهم.
ثم ضرب بيده إلى الارض فقبض بها ثم بسطها فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الاخرى مدر أو حصى
__________
(1) ا: ابن شقيق.
(2) ليست في ا.
(*)
فقال: أيهما أحلى في قلوبكم ؟ قالوا: هذا الذهب.
قال: فإنهما عندي سواء ! وقدمنا في قصة يحيى بن زكريا عن بعض السلف أن عيسى عليه السلام كان يلبس الشعر ويأكل من ورق الشجر ولا يأوى إلى منزل ولا أهل ولا مال ولا يدخر شيئا لغد.
قال بعضهم: كان يأكل من غزل أمه، صلوات الله وسلامه عليه.
وروى ابن عساكر عن الشعبي أنه قال: كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الساعة صاح ويقول: لا ينبغي لابن مريم أن يذكر عنده الساعة ويسكت.
وعن عبد الملك بن سعيد بن أبجر أن عيسى كان إذا سمع الموعظة صرخ صراخ الثكلى.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، حدثنا جعفر بن بلقان، أن عيسى كان يقول: " اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الامر بيد غيرى ؟ ؟، وأصبحت مرتهنا بعملي، فلا فقير أفقر مني ! اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤبى صديقى، ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تسلط علي من لا يرحمني ".
وقال الفضيل بن عياض عن يونس بن عبيد، كان عيسى يقول لا يصيب أحد (1) حقيقة الايمان حتى لا يبالى من أكل الدنيا ! قال الفضيل: وكان عيسى يقول: فكرت في الخلق فوجدت من لم يخلق أغبط عندي ممن خلق !
__________
(1) ا: لا نصيب حقيقة الايمان حتى لا نبالي.
(*)
وقال إسحاق بن بشر، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: إن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة.
قال: وإن الفرارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى.
قال: وبينما عيسى يوما نائم على حجر قد توسده وقد وجد لذة النوم إذ مر به إبليس فقال: يا عيسى ألست تزعم أنك لا تريد شيئا من عرض الدنيا ؟ فهذا الحجر من عرض الدنيا.
قال [ فقام عيسى (1) ] فأخذ الحجر فرمى به إليه وقال: هذا لك مع الدنيا ! وقال معتمر بن سليمان: خرج عيسى على أصحابه وعليه جبة صوف وكساء وتبان (2) حافيا باكيا شعثا مصفر اللون من الجوع يابس الشفتين من العطش فقال: السلام عليكم يا بني إسرائيل، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتى ؟ قالوا: أين بيتك
يا روح الله ؟ قال: بيتى المساجد، وطيبى الماء، وإدامى الجوع، وسراجى القمر بالليل، وصلائى في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بقول الارض، ولباسي الصوف (3)، وشعارى خوف رب العزة، وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شئ وأمسى وليس لي شئ وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أغنى مني وأربح ! رواه ابن عساكر.
وروى في ترجمة محمد بن الوليد بن أبان بن حبان أبي الحسن العقيلى
__________
(1) سقطت من المطبوعة وأثبتها من ا.
(2) التبان: سراويل صغير يستر العورة المغلظة.
(3) المطبوعة: الصون.
محرفة.
(*)
المصرى، حدثنا هانئ بن المتوكل الاسكندرانى، عن حيوة بن شريح، حدثنى الوليد بن أبي الوليد، عن شفى من ماتع (1)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى: أن يا عيسى انتقل من مكان إلى مكان لئلا تعرف فتؤذى، فوعزتي وجلالى لازوجنك ألف حوراء ولاولمن عليك أربعمائة عام.
وهذا حديث غريب رفعه، وقد يكون موقوفا من رواية شقى بن ماتع (1)، عن كعب الاحبار أو غيره من الاسرائيليين والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك: عن سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب، قال: قال عيسى للحواريين: كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك فاتركوا لهم الدنيا.
وقال قتادة قال عيسى عليه السلام: سلوني فإني لين القلب وإني
صغير عند نفسي.
وقال إسماعيلي بن عياش، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال عيسى للحواريين: كلوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجو من الدنيا سالمين آمنين، بحق ما أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين، بحق ما أقول لكم إن شركم عالم يؤثر هواه على علمه يود أن الناس كلهم مثله.
وروى نحوه عن أبي هريرة.
قال أبو مصعب عن مالك إنه بلغه أن عيسى كان يقول: يا بني
__________
(1) الاصل: سفى بن نافع.
محرفة.
والتصويب من المشتبه للذهبي 2 / 399.
(*)
إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البرير (1) وخبز (2) الشعير، وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره.
وقال ابن وهب عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: كان عيسى يقول اعبروا الدنيا ولا تعمروها (3).
وكان يقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والنظر يزرع في القلب الشهوة.
وحكى وهيب بن الورد مثله وزاد: ورب شهوة أورثت أهلها حزنا طويلا.
وعن عيسى عليه السلام: يابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضيفا، واتخذ المساجد بيتا، وعلم عينك البكاء وجسدك الصبر وقلبك التفكر، ولا تهتم برزق غد فإنها خطيئة.
وعنه عليه السلام أنه قال كما [ أنه ] (4) لا يستطيع أحدكم أن يتخذ على موج البحر دارا فلا يتخذ الدنيا قرارا.
وفي هذا يقول سابق البربري (5): لكم بيوت بمستن السيوف وهل * يبنى على الماء بيت أسه مدر !
__________
(1) البرير: ثمر الاراك.
ومنه حديث طهفة، ونستعضد البريرا، أي نجنيه للاكل وانظر النهاية لابن الاثير 1 / 87.
(2) ا: والخبز الشعير.
(3) هذه المرويات تصور ما أثر عن عيسى عليه السلام من عزوف عن المتاع وإقبال على العبادة، لكنها ليست مما يحتج به في موقف الدين من الدنيا، أما الاسلام فإنه يجمع بين الدنيا والآخرة ويجعل الدنيا ميدانا للعمل والجهاد.
(4) ليست في ا.
(5) هو أبو سعيد سابق بن عبد الله البربري، وليس منسوبا.
إلى البربر، وإنما هو: لقب له.
اللباب لابن الاثير 1 / 107.
(*)
وقال سفيان الثوري: قال عيسى بن مريم: لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء.
وقال إبراهيم الحربى عن داود بن رشيد، عن أبي عبد الله الصوفى قال: قال عيسى: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله.
وعن عيسى عليه السلام: إن الشيطان مع الدنيا ومكره مع المال (1) وتزينه مع الهوى، واستمكانه عند الشهوات.
وقال الاعمش عن خيثمة، كان عيسى يضع الطعام لاصحابه ويقوم عليهم ويقول: هكذا فاصنعوا بالقرى.
وبه قالت امرأة لعيسى عليه السلام: طوبى لحجر حملك ولثدي أرضعك.
فقال: طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبعه.
وعنه: طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته وحفظ لسانه ووسعه بيته.
وعنه: طوبى لعين نامت ولم تحدث نفسها بالمعصية وانتبهت إلى غير إثم.
وعن مالك بن دينار قال: مر عيسى وأصحابه بجيفة فقالوا: ما أنتن ريحها فقال: ما أبيض أسنانها.
لينهاهم عن الغيبة.
وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: يحدثنا الحسين بن عبد الرحمن، عن زكريا بن عدي قال: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين ارضوا
__________
(1) المطبوعة: وفكره من المال.
محرفة.
(*)
بدنى الدنيا مع سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنى الدين مع سلامة الدنيا.
قال زكريا: وفي ذلك يقول الشاعر: أرى رجالا بأدنى الدين قد قنعوا * ولا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما * استغنى الملوك بدنياهم عن الدين وقال أبو مصعب عن مالك قال عيسى بن مريم عليه السلام: " لا تكثروا الحديث بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في (1) ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية ".
وقال الثوري: سمعت أبي يقول عن إبراهيم التيمى، قال قال عيسى لاصحابه: بحق أقول لكم: من طلب الفردوس فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير.
وقال مالك بن دينار قال عيسى: إن أكل الشعير مع الرماد والنوم
على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس.
وقال عبد الله بن المبارك: أنبأنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قال عيسى اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها، فإن قلتم نحن أعظم بطونا من الطير فانظروا إلى هذه الاباقير (2) من الوحوش والحمر فإنها تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها.
__________
(1) ا: إلى.
(2) ا: الآثار.
(*)
وقال صفوان بن عمرو عن شريح بن عبد الله (1)، عن يزيد بن ميسرة، قال: قال الحواريون للمسيح: يا مسيح الله انظر إلى مسجد الله ما أحسنه.
قال: آمين آمين بحق ما أقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجرا قائما إلا أهلكه بذنوب أهله، إن الله لا يصنع بالذهب ولا الفضة ولا بهذه الاحجار التي تعجبكم شيئا إن أحب إلى الله منها القلوب الصالحة وبها يعمر الله الارض، وبها يخرب الله الارض إذا كانت على غير ذلك.
وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه: أخبرنا أبو منصور ابن محمد الصوفى، أخبرتنا عائشة بنت الحسن بن إبراهيم الوركانية، قالت: حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمر بن عبد الله بن الهشيم إملاء، حدثنا الوليد بن أبان إملاء، حدثنا أحمد بن جعفر الرازي، حدثنا سهيل بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيز، عن المعتمر.
عن مجاهد، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مر عيسى عليه السلام على مدينة خربة، فأعجبه البنيان فقال: أي رب مر
هذه المدينة أن تجيبني.
فأوحى الله إلى المدينة: أيتها المدينة الخربة جاوبى عيسى.
قال فنادت المدينة: عيسى حبيبي وما تريد منى ؟ قال: ما فعل أشجارك وما فعل أنهارك وما فعل قصورك وأين سكانك ؟ قالت: حبيبي جاء وعد ربك الحق فيبست أشجارى ونشفت أنهاري وخربت قصوري ومات سكانى.
قال: فأين أموالهم ؟ فقالت: جمعوها من
__________
(1) ا: ابن عبيدالله (*)
الحلال والحرام موضوعة في بطني، لله ميراث السموات والارض.
قال: فنادى عيسى عليه السلام: تعجبت (1) من ثلاث أناس: طالب الدنيا والموت يطلبه، وباني القصور والقبر منزله، ومن يضحك مل ء فيه والنار أمامه ! ابن آدم لا بالكثير تشبع ولا بالقليل تقنع، تجمع مالك لمن لا يحمدك وتقدم على رب لا يعذرك، إنما أنت عبد بطنك وشهوتك، وإنما تملا بطنك إذا دخلت قبرك، وأنت يابن آدم ترى حشد مالك في ميزان غيرك.
هذا حديث غريب جدا وفيه موعظة حسنة فكتبناه لذلك.
وقال سفيان الثوري عن أبيه، عن إبراهيم التيمى، قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء فإن قلب الرجل حيث كنزه.
وقال ثور بن يزيد عن عبد العزيز بن ظبيان قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: من تعلم وعلم وعمل دعي عظيما في ملكوت السماء.
وقال أبو كريب: روى أن عيسى عليه السلام قال: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ويعبر بك النادى.
وروى ابن عساكر بإسناد غريب عن ابن عباس مرفوعا أن عيسى قام في بني إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكم غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، والامور ثلاثة: أمر تبين
__________
(1) ط: فعجبت.
(*)
رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم فيه فردوا علمه إلى الله عزوجل.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن رجل، عن عكرمة قال: قال عيسى: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها، فإن الحكمة خير من اللؤلؤ ومن لا يريدها شر من الخنزير ! وكذا حكى وهب وغيره عنه أنه قال لاصحابه: أنتم ملح الارض فإذا فسدتم فلا دواء لكم، وإن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب والصبحة (1) من غير سهر.
وعنه أنه قيل له: من أشد الناس فتنة ؟ قال: زلة العالم، فإن العالم إذا زل يزل (2) بزلته عالم كثير.
وعنه أنه قال: يا علماء السوء جعلتم للدنيا على رءوسكم والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء وعملكم داء (3) مثلكم مثل شجرة الدقلى (4) تعجب من رآها وتقتل من أكلها.
وقال وهب: قال عيسى: يا علماء السوء جلستم على أبواب الجنة فلا تدخلونها ولا تدعون المساكين يدخلونها، إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه.
وقال مكحول: التقى يحيى وعيسى، فصافحه عيسى وهو يضحك فقال له
__________
(1) الصبحة.
نوم الغداة (2) ا: زل.
(3) المطبوعة ؟ ؟: دواء.
محرفة.
(4) الدقلى: نبت مر، قتال زهره كالورد الاحمر.
(*)
يحيى: يا بن خالة مالي أراك ضاحكا كأنك قد أمنت ؟ ! فقال له عيسى: مالي أراك عابسا كأنك قد يئست ! فأوحى الله إليهما: إن أحبكما إلي أبشكما بصاحبه.
وقال وهب بن منبه: وقف عيسى هو وأصحابه على قبر وصاحبه يدلى فيه، فجعلوا يذكرون القبر وضيقه فقال: قد كنتم فيما هو أضيق منه في أرحام (1) أمهاتكم، فإذا أحب (2) الله أن يوسع وسع.
وقال أبو عمر الضرير: بلغني أن عيسى كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما.
والآثار في مثل هذا كثيرة جدا.
وقد أورد الحافظ ابن عساكر منها طرفا صالحا اقتصرنا منها على هذا القدر.
والله الموفق للصواب.
__________
(1) ط: من أرحام (2) ا: فإذا أراد.
(*)
ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء في حفظ الرب، وبيان كذب اليهود والنصارى في دعوى الصلب قال الله تعالى: " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم
بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (1) ".
وقال تعالى: " فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما.
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " (2) فأخبر تعالى أنه رفعه إلى السماء بعد ما توفاه بالنوم على الصحيح المقطوع به، وخلصه ممن كان أراد أذيته من اليهود الذين وشوا به إلى بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان.
__________
(1) سورة آل عمران 54، 55.
(2) سورة النساء 155 - 159.
(*) (29 قصص الانبياء 2)
قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: كان اسمه داود بن نورا (1) فأمر بقتله وصلبه، فحصروه في دار ببيت المقدس، وذلك عشية الجمعة ليلة السبت، فلما حان وقت دخولهم ألقى شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده ورفع عيسى من روزنة [ من ] (2) ذلك البيت إلى السماء، وأهل البيت ينظرون، ودخل الشرط فوجدوا ذلك الشاب الذي ألقى عليه شبهه فأخذوه ظانين أنه عيسى فصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه إهانة له، وسلم لليهود عامة النصارى الذين لم يشاهدوا ما كان من أمر عيسى أنه صلب وضلوا بسبب ذلك ضلالا مبينا كثيرا فاحشا بعيدا.
وأخبر تعالى بقوله: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته " أي بعد نزوله إلى الارض في آخر الزمان قبل قيام الساعة، فإنه ينزل ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الاسلام، كما بينا ذلك بما ورد فيه من الاحاديث عند تفسير هذه الآية الكريمة من سورة النساء، كما أوردنا ذلك مستقصى في كتاب الفتن والملاحم عند أخبار المسيح الدجال، فذكرنا ما ورد في نزول المسيح المهدي عليه السلام من ذي الجلال لقتل المسيح الدجال الكذاب الداعي إلى الضلال.
وهذا ذكر ما ورد في الآثار في صفة رفعه إلى السماء: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر
__________
(1) ا: بن فودا (2) من ا.
(*)
رجلا منهم من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر بي اثنى عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم [ يلقى ] (1) عليه شبهي فيقتل مكاني فيكون معى في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له: اجلس.
ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا.
فقال: أنت هو ذاك.
فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء.
قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثنى عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق، فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء.
وهؤلاء اليعقوبية.
وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء ثم رفعه الله إليه.
وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الاسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: وذلك قوله تعالى: " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ".
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس على شرط مسلم.
ورواه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية به نحوه.
ورواه ابن جرير عن مسلم بن جنادة عن أبي معاوية.
وهكذا ذكر غير واحد من السلف وممن ذكر ذلك مطولا محمد ابن إسحق بن يسار (2).
__________
(1) سقطت من ا.
(2) المطبوعة: ابن بشار.
محرفة (*)
قال: وجعل عيسى عليه السلام يدعو الله عزوجل أن يؤخر أجله، يعني ليبلغ الرسالة ويكمل الدعوة ويكثر الناس الدخول في دين الله قيل: وكان عنده من الحواريين اثنا عشر رجلا: بطرس ويعقوب بن زبدا ويحنس أخو يعقوب، واندراوس، وفليبس، وابرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلقيا، وتداوس (1) وفتاتيا، ويودس (2) كريايوطا، وهذا هو الذي دل اليهود على عيسى.
قال ابن إسحق: وكان فيهم رجل آخر اسمه سرجس كتمته النصارى وهو الذي ألقى شبه المسيح عليه فصلب عنه.
قال: وبعض النصارى يزعم أن الذي صلب عن المسيح وألقى عليه شبهه هو يودس بن كريايوطا والله أعلم.
وقال الضحاك عن ابن عباس استخلف عيسى شمعون وقتلت اليهود يودس الذي ألقى عليه الشبه.
وقال أحمد بن مروان: حدثنا محمد بن الجهم، قال: سمعت الفراء يقول في قوله: " ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين " قال: إن عيسى غاب عن خالته زمانا فأتاها، فقام رأس الجالوت اليهودي فضرب على عيسى حتى اجتمعوا على باب داره فكسروا الباب ودخل رأس جالوت ليأخذ عيسى فطمس الله عينيه عن عيسى، ثم خرج إلى أصحابه فقال لم أره.
ومعه سيف مسلول.
فقالوا: أنت عيسى وألقى الله شبه
__________
(1): حلقايا وبراوسيس.
(2) ا: ونودس.
(*)
عيسى عليه [ فأخذوه ] (1) فقتلوه وصلبوه، فقال جل ذكره: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ".
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي، عن هرون ابن عنترة، عن وهب بن منبه، قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم: سحرتمونا لتبرزن إلينا عيسى أو لنقتلنكم جميعا.
فقال عيسى لاصحابه: من يشتري منكم نفسه اليوم بالجنة (2) فقال رجل أنا.
فخرج إليهم فقال: أنا عيسى.
وقد صوره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، فظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.
قال ابن جرير: وحدثنا المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا إسماعيل بن
عبد الكريم، حدثنى عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما فقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه فقال: من رد على شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه.
فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم (3) على
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: من يرى اليوم الجنة.
(3) ا: مما حدثتكم.
(*)
الطعام وغسلت أيديكم بيدى فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أنى خيركم فلا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه، كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتى التي استعنتكم عليها فتدعون الله [ لي ] (1) وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلى.
فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها ؟ فقالوا: والله ما ندرى مالنا، والله لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه فقال: يذهب بالراعى وتتفرق الغنم ! وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى به نفسه.
ثم قال: الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني.
فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين فقالوا: هذا من صحابه.
فجحد وقال: ما أنا بصاحبه.
فتركوه.
ثم أخذه آخرون فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه.
فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه وكان شبه عليهم قبل ذلك فأخذوه واستوثقوا منه وربطوه بالحبل وجعلوا يقودونه
__________
(1) من ا.
(*)
ويقولون: أنت كنت تحيى الموتى وتنتهر الشيطان وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ! ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعا.
ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان ؟ قالتا عليك.
فقال: إني قد رفعني الله إليه ولم يصبنى إلا خير، وإن هذا شئ شبه لهم.
فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا.
فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه فقالوا إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه.
فقال: لو تاب لتاب الله عليه.
ثم سألهم عن غلام [ كان ] (1) يتبعهم يقال له يحيى فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.
وهذا إسناد غريب عجيب، وهو أصح مما ذكره النصارى لعنهم الله
من أن المسيح جاء إلى مريم وهي جالسة تبكى عند جذعة فأراها مكان المسامير من جسده، وأخبرها أن روحه رفعت وأن جسده صلب.
وهذا بهت وكذب واختلاق وتحريف وتبديل وزيادة باطلة في الانجيل على خلاف الحق ومقتضى الدليل (2).
وحكى الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن حبيب، فيما بلغه،
__________
(1) من ا.
(2) المطبوعة: ومقتضى النقل (*)
أن مريم سألت من بيت الملك بعد ما صلب المصلوب بسبعة أيام، وهي تحسب أنه ابنها، أن ينزل جسده، فأجابهم إلى ذلك ودفن هنالك، فقالت مريم لام يحيى: ألا تذهبين بنا نزور قبر المسيح ؟ فذهبتا فلما دنتا من القبر قالت مريم لام يحيى.
ألا تستترين ؟ فقالت: وممن أستتر ؟ فقالت من هذا الرجل الذي هو عند القبر.
فقالت أم يحيى: إني لا أرى أحدا فرجت مريم أن يكون جبريل، وكانت قد بعد عهدها به، فاستوقفت أم يحيى وذهبت نحو القبر فلما دنت من القبر قال لها جبريل، وعرفته: يا مريم أين تريدين (1) ؟ فقالت: أزور قبر المسيح فأسلم عليه وأحدث عهدا به.
فقال: يا مريم إن هذا ليس المسيح، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا، ولكن هذا الفتى الذي ألقى شبهه عليه وصلب وقتل مكانه، وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه فلا يدرون ما فعل به فهم يبكون عليه فإذا كان يوم كذا وكذا فأت غيضة كذا وكذا فإنك تلقين المسيح.
قال: فرجعت إلى أختها وصعد جبريل فأخبرتها عن جبريل وما قال لها من أمر الغيضة، فلما كان ذلك اليوم ذهبت فوجدت عيسى في الغيضة
فلما رآها أسرع إليها وأكب عليها فقبل رأسها وجعل يدعو لها كما كان يفعل، وقال يا أمه إن القوم لم يقتلوني ولكن الله رفعني إليه وأذن لي في لقائك والموت يأتيك قريبا فاصبري واذكري الله كثيرا.
ثم صعد عيسى فلم تلقه إلا تلك المرة حتى ماتت.
__________
(1) ا: أين تريدون.
(*)
قال: وبلغني أن مريم بقيت بعد عيسى خمس سنين وماتت ولها ثلاث وخمسون سنة.
رضي الله عنها وأرضاها.
وقال الحسن [ البصري ] (1): كان عمر عيسى عليه السلام يوم رفع أربعا وثلاثين سنة.
وفي الحديث: " إن أهل الجنة يدخلونها (2) جردا مردا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين ".
وفي الحديث: الآخر: " على ميلاد عيسى وحسن يوسف " وكذا قال حماد بن سلمة عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
فأما الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه ويعقوب بن سفيان الفسوى في تاريخه، عن سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن يزيد، عن عمارة ابن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، أن أمه فاطمة بنت الحسين حدثته أن عائشة كانت تقول: أخبرتني فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم يكن نبي كان بعده نبي إلا عاش الذي بعده نصف عمر الذي كان قبله، وأنه أخبرني أن عيسى بن مريم عاش عشرين ومائة سنة فلا أراني إلا ذاهب على رأس ستين.
هذا لفظ الفسوى.
فهو حديث غريب.
قال الحافظ ابن عساكر: والصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا العمر، وإنما
أراد به مدة مقامه في أمته، كما روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة، قال قالت فاطمة: قال لي رسول الله صلى الله
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: يدخلون.
(*)
عليه وسلم: إن عيسى بن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة وهذا منقطع.
وقال جرير والثوري عن الاعمش، عن (1) إبراهيم: مكث عيسى في قومه أربعين عاما.
ويروى عن أمير المؤمنين علي أن عيسى عليه السلام رفع ليلة الثاني والعشرين من رمضان، وتلك الليلة في مثلها توفى علي بعد طعنه بخمسة أيام.
وقد روى الضحاك عن ابن عباس أن عيسى لما رفع إلى السماء جاءته سحابة فدنت منه حتى جلس عليها وجاءته مريم فودعته وبكت ثم رفع وهي تنظر وألقى إليها عيسى.
دا له وقال: هذا علامة ما بينى وبينك يوم القيامة وألقى عمامته على شمعون، وجعلت أمه تودعه بإصبعها تشير بها إليه حتى غاب عنها، وكانت تحبه حبا شديدا، لانه توفر (2) عليها حبه من جهتى الوالدين إذ لا أب له، وكانت لا تفارقه سفرا ولا حضرا [ وكانت كما (3) ] قال بعض الشعراء: وكنت أرى كالموت من بين ساعة * فكيف ببين كان موعده الحشر وذكر إسحاق بن بشر، عن مجاهد بن جبير (4) أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل شبه لهم وهم يحسبونه المسيح وسلم لهم أكثر النصارى بجهلهم ذلك، تسلطوا على أصحابه بالقتل والضرب والحبس فبلغ أمرهم
__________
(1) الاصل: أن إبراهيم (2) ا: موفر (3) من ا (4) ا: ابن جبر.
(*)
إلى صاحب الروم وهو ملك دمشق في ذلك الزمان، فقيل له إن اليهود قد تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله وكان (1) يحيى الموتى ويبرئ الاكمه والابرص ويفعل العجائب، فعدوا عليه فقتلوه وأهانوا أصحابه وحبسوهم فبعث فجئ بهم وفيهم يحيى بن زكريا وشمعون وجماعة، فسألهم عن أمر المسيح فأخبروه عنه، فبايعهم في دينهم وأعلى كلمتهم وظهر (2) الحق على اليهود وعلت كلمة النصارى عليهم، وبعث إلى المصلوب فوضع عن جذعه وحئ بالجذع الذي صلب عليه ذلك الرجل فعظمه فمن ثم عظمت النصارى الصليب، ومن هاهنا دخل دين النصرانية في الروم.
وفي هذا نظر من وجوه: أحدها: أن يحيى بن زكريا نبي لا يقر على أن المصلوب عيسى، فإنه معصوم يعلم ما وقع على جهة الحق.
الثاني: ان الروم لم يدخلوا في دين المسيح إلا بعد ثلاثمائة سنة، وذلك في زمان قسطنطين بن قسطن بانى المدينة المنسوبة إليه على ما سنذكره.
الثالث: أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل ثم ألقوه بخشبته جعلوا مكانه مطرحا للقمامة والنجاسة وجيف الميتات والقاذورات، فلم يزل كذلك حتى كان في [ زمان ] قسطنطين المذكور فعمدت أمه هيلانة الحرانية الفندقانية فاستخرجته من هنالك معتقدة أنه المسيح، ووجدوا الخشبة التي
__________
(1) ا: وأنه كان (2) ا: فأظهر.
(*)
صلب عليها للصلوب، فذكروا أنه ما مسها ذو عاهة إلا عوفي.
فالله أعلم أكان هذا أم لا، وهل كان هذا لان ذلك الرجل الذي بذل نفسه كان رجلا صالحا أو كان هذا محنة وفتنة لامة النصارى في ذلك اليوم، حتى عظموا تلك الخشبة وغشوها بالذهب واللآلئ، ومن ثم اتخذوا الصلبانات وتبركوا بشكلها وقبلوها، وأمرت أم الملك هيلانة فأزيلت تلك القمامة وبنى مكانها كنيسة هائلة مزخرفة بأنواع الزينة، فهي هذه المشهورة اليوم ببلد بيت المقدس التي يقال لها القمامة باعتبار ما كان عندها، ويسمونها القيامة يعنون التي يقوم جسد المسيح منها.
ثم أمرت هيلانة بأن توضع قمامة البلد وكناسته وقاذوراته على الصخرة التي هي قبلة اليهود فلم تزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس، فكنس عنها القمامة بردائه وطهرها من الاخباث والانجاس، ولم يضع المسجد وراءها ولكن أمامها حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء بالانبياء وهو [ المسجد ] الاقصى.
ذكر صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله قال الله تعالى: " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة ".
قيل سمى المسيح لمسحه الارض وهو سياحته فيها وفراره بدينه من الفتن في ذلك الزمان، لشدة تكذيب اليهود له وافترائهم عليه وعلى أمه عليهما السلام.
وقيل لانه كان ممسوح القدمين.
وقال تعالى: " وقفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور " وقال تعالى: " وآتينا عيسى بن مريم
البينات وأيدناه بروح القدس " والآيات في ذلك (1) كثيرة جدا.
وقد تقدم ما ثبت في الصحيحين: " ما من مولود إلا والشيطان يطعن في خاصرته حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها، ذهب يطعن فطعن في الحجاب " وتقدم حديث عمير بن هانئ [ عن جنادة، عن عبادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (2) ] " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبد (3) الله ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ".
رواه البخاري وهذا لفظه، ومسلم.
__________
(1) ا: في ذكره.
(2) سقط من ا.
(3) ط: عبده.
(*)
وروى البخاري ومسلم من حديث الشعبي، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أدب الرجل أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها كان له أجران، وإذا آمن بعيسى بن مريم ثم آمن بي فله أجران، والعبد إذا اتقى ربه وأطاع مواليه فله أجران ".
هذا لفظ البخاري.
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام، عن معمر (ح) وحدثني محمود، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي (1) صلى الله عليه وسلم " ليلة أسرى بي لقيت موسى.
قال فنعته فإذا رجل حسبته قال مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة.
قال ولقيت عيسى فنعته النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: ربعة (2) أحمر كأنما خرج من ديماس، يعني الحمام، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به " الحديث.
وقد تقدم في قصتي إبراهيم وموسى.
ثم قال: حدثنا محمد بن كثير، أنبأنا اسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت عيسى وموسى وإبراهيم.
فأما عيسى فأحمر جعد (2) عريض الصدر.
وأما موسى فآدم جسيم سبط (3) كأنه من رجال الزط ".
تفرد به البخاري.
__________
(1) ا: قال رسول الله.
(2) الربعة: المتوسط بين الطول والقصر.
(3) السبط: المسترسل الشعر.
(*)
وحدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أبو ضمرة، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع، قال: قال عبد الله بن عمر: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال: إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من أدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه رجل الشعر يقطر رأسه ماء واضعا يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت فقلت من هذا ؟ فقالوا: المسيح بن مريم ثم رأيت رجلا وراءه جعدا قططا (1) أعور عين اليمنى كأشبه من رأيت بابن قطن، واضعا يده على منكبي رجل يطوف بالبيت فقلت من هذا ؟ فقالوا: المسيح الدجال.
ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة.
ثم قال البخاري: تابعه
عبد الله بن نافع.
ثم ساقه من طريق الزهري عن سالم بن عمر قال الزهري: وابن قطن رجل من خزاعة هلك في الجاهلية.
فبين صلوات الله وسلامه عليه صفة المسيحين: مسيح الهدى ومسيح الضلالة، ليعرف هذا إذا نزل فيؤمن به المؤمنون ويعرف الآخر فيحذره الموحدون.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا (2)
__________
(1) الجعد: خلاف السبط، وهو المسترسل من الشعر.
والقطط: الشديد الجعودة.
وفي الاصل: جعد قطط والتصويب من البخاري 2 / 124.
(2) ا: حدثنا.
(*)
معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق فقال له: أسرقت ؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو.
فقال عيسى آمنت بالله وكذبت عينى " وكذا رواه [ مسلم عن ] (1) محمد بن رافع عن عبد الرزاق.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن الحسن وغيره، عن أبي هريرة قال:، ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأى عيسى رجلا يسرق فقال: يا فلان أسرقت ؟ فقال لا والله ما سرقت.
فقال آمنت بالله وكذبت بصرى ".
وهذا يدل على سجية طاهرة، حيث قدم حلف ذلك الرجل فظن (2) أن أحدا لا يحلف بعظمة الله كاذبا على ما شاهده منه عيانا، فقبل عذره ورجع على نفسه فقال: آمنت بالله.
أي صدقتك وكذبت بصرى لاجل حلفك.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن المغيرة ابن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحشرون حفاة عراة غرلا ثم قرأ: " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " فأول الخلق يكسى إبراهيم، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال فأقول أصحابي فيقال إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح عيسى بن مريم: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت
__________
(1) سقطت من المطبوعة (2) ا: وظن (*)
فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
تفرد به دون مسلم من هذا الوجه.
وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان، سمعت الزهري يقول: أخبرني عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس سمع عمر يقول على المنبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ".
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج يصلى إذ جاءته أمه فدعته فقال أجيبها أو أصلى ؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعة فعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقيل لها ممن ؟ قالت:
من جريج فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام ؟ قال: فلان الراعى.
قالوا: أنبنى صومعتك من ذهب ؟ قال: لا إلا من طين.
وكانت امرأة ترضع ابنا لها في بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله.
ثم أقبل على ثديها يمصه.
قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه.
ثم مر بأمة فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه.
فترك (30 - قصص الانبياء 2)
ثديها فقال: اللهم اجعلني مثلها.
فقالت: لم ذلك فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الامة يقولون سرقت وزنت (1).
ولم تفعل " وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا أولى الناس بابن مريم، والانبياء أولاد علات (2) ليس بيني وبينه نبي ".
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي داود الحفرى، عن الثوري عن أبي الزناد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان هو الثوري، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أولى الناس بعيسى عليه السلام والانبياء إخوة أولاد علات، وليس بيني وبين عيسى نبي ".
وهذا إسناد صحيح على شرطهما ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وأخرجه
أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الرزاق نحوه (3).
قال أحمد حدثنا: يحيى، عن ابن أبي عروبة، حدثنا قتادة، عن عبد الرحمن ابن آدم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الانبياء إخوة
__________
(1) ا: وزنيت.
(2) العلات: الضرائر (3) ا: به نحوه.
(*)
لعلات، ودينهم واحد وأمهاتهم شتى، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لانه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين مخصرتين (1)، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل حتى تهلك في زمانه كلها غير الاسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب، وتقع الامنة في الارض حتى ترتع الابل مع الاسد جميعا والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا فيمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يتوفى فيصلى عليه المسلمون ويدفنونه.
ثم رواه أحمد عن عفان، عن همام، عن قتادة، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة فذكر نحوه.
وقال: فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون.
ورواه أبو داود عن هدبة بن خالد، عن همام بن يحيى به نحوه.
وروى هشام بن عروة، عن صالح مولى أبي هريرة عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فيمكث في الارض أربعين سنة " وقد بينا
نزوله عليه السلام في آخر الزمان في كتاب الملاحم، كما بسطنا ذلك أيضا في التفسير عند قوله تعالى في سورة النساء: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " وقوله " وإنه لعلم للساعة " الآية وأنه ينزل على المنارة البيضاء بدمشق وقد أقيمت صلاة الصبح فيقول له إمام المسلمين: تقدم يا روح الله فصل.
فيقول:
__________
(1) المخصرة: ما يتوكأ عليه كالعصا، وما يأخذه الملك ليشير به إذا خاطب.
(*)
لا بعضكم على بعض أمراء مكرمة الله هذه الامة.
وفي رواية فيقول له عيسى: إنما أقيمت الصلاة لك.
فيصلى خلفه.
ثم يركب ومعه المسلمون في طلب المسيح الدجال فيلحقه عند باب لد فيقتله بيده الكريمة.
وذكرنا أنه قوى الرجاء حين بنيت هذه المنارة الشرقية بدمشق التي هي من حجارة بيض، وقد بنيت أيضا من أموال النصارى حين حرقوا التي هدمت وما حولها، فينزل عليها عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ولا يقبل من أحد إلا الاسلام، وأنه يخرج من فج الروحاء حاجا أو معتمرا أو لثتتيهما (1)، ويقيم أربعين سنة، ثم يموت فيدفن فيما قيل في الحجرة النبوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
وقد ورد في ذلك حديث ذكره ابن عساكر في آخر ترجمة المسيح عليه السلام في كتابه عن عائشة مرفوعا، أنه يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحجرة النبوية ولكن لا يصح إسناده.
وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا زيد بن أخزم الطائي، حدثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدثني أبو مودود المدنى، حدثنا عثمان بن الضحاك، عن محمد بن يوسف عن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال
مكتوب في التوراة: صفة محمد وعيسى بن مريم عليهم السلام يدفن معه.
قال أبو مودود: وقد بقى من البيت موضع قبر.
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن.
كذا قال.
والصواب: الضحاك ابن عثمان المدني.
__________
(1) ا: أو ليثنيهما.
(*)
وقال البخاري: هذا الحديث لا يصح عندي ولا يتابع عليه.
وروى البخاري عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن عاصم الاحول، عن أبي عثمان النهدي (1)، عن سلمان: قال: الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة وعن قتادة خمسمائة وستون سنة.
وقيل خمسمائة وأربعون سنة وعن الضحاك أربعمائة وبضع وثلاثون سنة.
والمشهور ستمائة سنة.
ومنهم من يقول ستمائة وعشرون سنة بالقمرية، لتكون ستمائة بالشمسية والله أعلم.
وقال ابن حبان في صحيحه: " ذكر المدة التي بقيت فيها أمه عيسى على هديه ": حدثنا أبو يعلى، حدثنا أبو همام، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حميد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر بن علقمة، عن جبير ابن نفير، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد قبض الله داود من بين أصحابه فما فتنوا ولا بدلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سنته وهديه مائتي سنة ".
وهذا حديث غريب جدا، وإن صححه ابن حبان.
وذكر ابن جرير عن محمد بن إسحاق، أن عيسى عليه السلام قبل أن يرفع وصي الحواريين بأن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك
له وعين كل واحد منهم إلى طائفة من الناس في إقليم من الاقاليم من الشام والمشرق وبلاد المغرب، فذكروا أنه أصبح كل إنسان منهم يتكلم بلغة الذين أرسله المسيح إليهم.
__________
(1) أ: اليزيدي.
محرفة.
(*)
وذكر غير واحد أن الانجيل نقله عنه أربعة: لوقا ومتى ومرقس ويوحنا، وبين هذه الاناجيل الاربعة تفاوت كثير بالنسبة إلى كل نسخة ونسخة، وزيادات كثيرة ونقص بالنسبة إلى الاخرى، وهؤلاء الاربعة منهم اثنان ممن أدرك المسيح وراءه [ وهما (1) متى ويوحنا، ومنهم اثنان من أصحاب أصحابه وهما مرقس ولوقا.
وكان ممن آمن بالمسيح وصدقه من أهل دمشق رجل يقال له ضينا، وكان مختفيا في مغارة داخل الباب الشرقي قريبا من الكنيسة المصلبة خوفا من بولس اليهودي، وكان ظالما غاشما مبغضا للمسيح ولما جاء به، وكان قد حلق رأس ابن أخيه حين آمن بالمسيح وطاف به في البلد ثم رجمه حتى مات رحمه الله.
ولما سمع بولص أن المسيح عليه السلام قد توجه نحو دمشق جهز بغاله وخرج ليقتله، فتلقاه عند كوكبا، فلما واجه أصحاب المسيح جاء إليه ملك فضرب وجهه بطرف جناحه فأعماه، فلما رأى ذلك وقع
__________
(1) من هنا إلى آخر الكتاب سقط من ا.
وفي ا زيادة نصها: وقد أنشد الشيخ شهاب الدين القرافى في كتابه " الرد على النصارى " لبعضهم يرد عليهم في قولهم بصلب المسيح وتسليمهم ذلك لليهود، مع دعواهم أنه ابن الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
عجبا للمسيح بين النصارى * وإلى الله والدا نسبوه أسلموه إلى اليهود وقالوا * إنهم بعد قتله صلبوه فإن كان ما تقولون حقا * وصحيحا فأين كان أبوه حين خلى ابنه رهين الاعادي * أتراهم أرضوه أم أغضبوه فلئن كان راضيا بأذاهم * فاعذروهم لانهم واقفوه ولئن كان ساخطا فاتركوه * واعبدوهم لانهم غلبوه
في نفسه تصديق المسيح فجاء إليه واعتذر مما صنع، وآمن به فقبل منه وسأله أن يمسح عينيه ليرد الله عليه بصره، فقال اذهب إلى ضينا عندك بدمشق في طرف السوق المستطيل من المشرق فهو يدعو لك فجاء إليه فدعا فرد عليه بصره وحسن إيمان بولص بالمسيح عليه السلام أنه عبد الله ورسوله وبنيت له كنيسته باسمه فهي كنيسة بولص المشهورة بدمشق من زمن فتحها الصحابة رضي الله عنهم حتى خربت.
فصل اختلف أصحاب المسيح عليه السلام بعد رفعه إلى السماء فيه على أقوال، كما قاله ابن عباس وغيره من أئمة السلف كما أوردناه عند قوله: " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ".
قال ابن عباس وغيره: قال قائلون منهم: كان فينا عبد الله ورسوله فرفع إلى السماء.
وقال آخرون: هو الله.
وقال آخرون: هو ابن الله.
فالاول هو الحق والقولان الآخران كفر عظيم، كما قال: " فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ".
وقد اختلفوا في نقل الاناجيل على أربعة أقاويل ما بين زيادة ونقصان
وتحريف وتبديل.
ثم بعد المسيح بثلاثمائة سنة حدثت فيه الطامة العظمى والبلية الكبرى اختلف البتاركة الاربعة وجميع الاساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين في المسيح على أقوال متعددة لا تنحصر ولا تنضبط، واجتمعوا وتحاكموا
إلى الملك قسطنطين بانى القسطنطينية وهم المجمع الاول، فصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على قول من تلك المقالات، فسموا الملكية (1) ودحض من عداهم وأبعدهم، وتفردت الفرقة التابعة لعبد الله بن أريوس الذي ثبت على أن عيسى عبد من عباد الله ورسول من رسله فسكنوا البراري والبوادي وبنوا الصوامع والديارات والقلايات، وقنعوا بالعيش الزهيد ولم يخالطوا أولئك الملل والنحل وبنت الملكية (2) الكنائس الهائلة، عمدوا إلى ما كان من بناء اليونان فحولوا محاريبها إلى الشرق وقد كانت إلى الشمال إلى الجدى.
بيان بناء بيت لحم والقمامة وبنى الملك قسطنطين بيت لحم على محل مولد المسيح، وبنت أمه هيلانة القمامة، بعنى على قبر المصلوب وهم يسلمون لليهود أنه المسيح.
وقد كفرت هؤلاء وهؤلاء ووضعوا القوانين والاحكام.
ومنها مخالف للعتيقة التي هي التوراة، وأحلوا أشياء هي حرام بنص التوراة ومن ذلك الخنزير، وصلوا إلى الشرق ولم يكن المسيح صلى إلا إلى صخرة بيت المقدس، وكذلك جميع الانبياء بعد موسى، ومحمد خاتم النبيين صلى إليها بعد هجرته إلى المدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم حول إلى الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل.
وصوروا الكنائس ولم تكن مصورة قبل ذلك، ووضعوا العقيدة التي
__________
(1) الاصل الملائكة (2) الاصل الملائكة.
(*)
يحفظها أطفالهم ونساؤهم ورجالهم التي يسمونها بالامانة، وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة.
وجميع الملكية والنسطورية أصحاب نطورس أهل المجمع الثاني، واليعقوبية أصحاب يعقوب البراذعى أصحاب المجمع الثالث، يعتقدون هذه العقيدة ويختلفون في تفسيرها.
وها أنا أحكيها وحاكي الكفر ليس بكافر لابث، على ما فيها [ من ] ركة الالفاظ وكثرة الكفر والخبال المفضى بصاحبه إلى النار ذات الشواظ فيقولون: " نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات والارض كل ما يرى وكل ما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الاب قبل الدهور نور من نور إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساو للاب في الجوهر الذي كان به كل شئ، من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب على عهد ملاطس النبطي وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الاب، وأيضا فسيأتي بجسده ليدبر الاحياء والاموات الذي لافناء لملكه، وروح القدس الرب المحيى المنبثق من الاب مع الاب، والابن مسجود له وبمجد الناطق في الانبياء كنيسة واحدة جامعة مقدسة يهولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وأنه حي قيامة الموتى وحياة الدهر العتيد كونه آمين.
يحفظها أطفالهم ونساؤهم ورجالهم التي يسمونها بالامانة، وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة.
وجميع الملكية والنسطورية أصحاب نطورس أهل المجمع الثاني، واليعقوبية أصحاب يعقوب البراذعى أصحاب المجمع الثالث، يعتقدون هذه العقيدة ويختلفون في تفسيرها.
وها أنا أحكيها وحاكي الكفر ليس بكافر لابث، على ما فيها [ من ] ركة الالفاظ وكثرة الكفر والخبال المفضى بصاحبه إلى النار ذات الشواظ فيقولون: " نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات والارض كل ما يرى وكل ما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الاب قبل الدهور نور من نور إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساو للاب في الجوهر الذي كان به كل شئ، من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب على عهد ملاطس النبطي وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الاب، وأيضا فسيأتي بجسده ليدبر الاحياء والاموات الذي لافناء لملكه، وروح القدس الرب المحيى المنبثق من الاب مع الاب، والابن مسجود له وبمجد الناطق في الانبياء كنيسة واحدة جامعة مقدسة يهولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وأنه حي قيامة الموتى وحياة الدهر العتيد كونه آمين.
وإلى هنا ينتهي كتاب قصص الانبياء للامام أبي الفداء إسماعيل بن ابن كثير، والحمد لله على نعمته..
|