قصص الانبياء - ابن كثير - داود عليه السلام
 
داود عليه السلام

قصة داود عليه السلام وما كان في أيامه وذكر فضائله وشمائله ودلائل نبوته وأعلامه هو داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عوينادب ابن ارم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل عبد الله ونبيه وخليفته في أرض بيت المقدس.
قال محمد بن إسحق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: كان داود عليه السلام قصيرا أزرق العينين قليل الشعر طاهر القلب ونقيه.
تقدم أنه لما قتل جالوت وكان قتله له فيما ذكر ابن عساكر عند قصر أم حكيم بقرب مرج الصفر، فأحبته بنو إسرائيل ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلى داود عليه السلام، وجمع الله له بين الملك والنبوة بين خير الدنيا والآخرة، وكان الملك يكون في سبط والنبوة في آخر فاجتمعا في داود هذا.
وهذا كما قال تعالى: " وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذوفضل على العالمين " أي لولا إقامة الملوك حكاما على الناس لاكل قوى الناس ضعيفهم.
ولهذا جاء في بعض الآثار " السلطان ظل مالله ؟ ؟ في أرضه ".
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ".

وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن جالوت لما بارز طالوت فقال له خرج إلي وأخرج إليك فندب طالوت الناس فانتدب داود فقتل جالوت
قال وهب بن منبه: فمال الناس إلى داود حتى لم يكن لطالوت ذكر، وخلعوا طالوت وولوا عليهم داود.
وقيل إن ذلك عن أمر شمويل حتى قال بعضهم إنه ولاه قبل الوقعة.
قال ابن جرير: والذي عليه الجمهور أنه إنما ولى ذلك بعد قتل جالوت والله أعلم.
وروى ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أن قتله جالوت كان عند قصر أم حكيم وأن النهر الذي هناك هو المذكور في الآية فالله أعلم.
* * * وقال تعالى " ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير " وقال تعالى: " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين.
وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون " أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن (1) المقاتلة من الاعداء وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها فقال: " وقدر في السرد " أي لا تدق المسمار فيفلق ولا تغلظه فيفصم.
قاله مجاهد وقتادة والحكم وعكرمة.
قال الحسن البصري وقتادة والاعمش: كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يقتله بيده لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة.
قال قتادة: فكان
__________
(1) ا: لتحصين.
(*)

أول من عمل الدروع من زرد وإنما كانت قبل ذلك من صفائح.
قال ابن شوذب: كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم.
وقد ثبت في الحديث أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن نبي الله
داود كان يأكل من كسب يده.
وقال تعالى: " واذكر عبدنا داود ذا الايد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ".
قال ابن عباس ومجاهد: الايد القوة في الطاعة.
يعني ذا قوة في العبادة والعمل الصالح.
قال قتادة: أعطى قوة في العبادة وفقها في الاسلام قال: وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى ".
وقوله: " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له أواب " كما قال: " يا جبال أوبي معه والطير " أي سبحي معه.
قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد في تفسير هذه الآية " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق " أي عند آخر النهار وأوله، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحد بحيث إنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه ويسبح بتسبيحه

وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيا، صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الاوزاعي: حدثني عبد الله بن عامر قال: أعطى داود من حسن الصوت ما لم يعط أحد قط، حتى إن كان الطير والوحش ينعكف حوله
حتى يموت عطشا وجوعا وحتى إن الانهار لتقف ! وقال وهب بن منبه: كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئة الرقص، وكان يقرأ لزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله فيعكف (1) الجن والانس والطير والدواب على صوته حتى يهلك بعضها جوعا.
وقال أبو عوانة الاسفرايينى: حدثنا أبو بكر ابن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن منصور الطوسى سمعت صبيحا أبا تراب رحمه الله (2) قال أبو عوانة: وحدثني أبو العباس المدنى، حدثنا محمد بن صالح العدوى حدثنا سيار هو ابن حاتم عن جعفر، عن مالك، قال: كان داود عليه السلام إذا أخذ في قراءة الزبور تفتقت العذارى [ وهذا غريب (3) ].
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج، سألت عطاء عن القراءة على الغناء فقال: وما بأس بذلك ؟ سمعت عبيد بن عمر يقول: كان داود عليه السلام يأخذ المعزفة فيضرب بها فيقرأ عليها فترد عليه صوته يريد بذلك أن يبكى وتبكى.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت
__________
(1) ا: لتعتكف (2) كذا في ا.
وفي المطبوعة محرفة: أنبئنا برادح (3) ليست في ا.
(*)

أبي موسى الاشعري وهو يقرأ فقال لقد أوتي أبو موسى من مزامير (1) آل داود.
وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمر،
عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد أعطى أبو موسى من مزامير داود.
على شرط مسلم.
وقد روينا عن أبي عثمان النهدي (2) أنه قال: لقد سمعت البربط والمزمار، فما سمعت صوتا أحسن من صوت أبي موسى الاشعري.
وقد كان مع هذا الصوت الرخيم سريع القراءة لكتابة الزبور، كما قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خفف على داود القراءة، فكان يأمر بدابته فتسرج فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه.
وكذلك رواه البخاري منفردا به عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق به.
ولفظة: " خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يديه.
__________
(1) ا: من مزامر (2) المطبوعة: الترمذي، محرفة.
وما أثبته من ا.
(*)

ثم قال البخاري: ورواه موسى ابن عقبة (1)، عن صفوان، هو ابن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أسندء ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام في تاريخه من طرق عن إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، ومن طريق أبي عاصم عن أبي بكر السبرى، عن صفوان بن سليم به.
والمراد بالقرآن هاهنا الزبور الذي أنزله عليه وأوحاه إليه، وذكر
رواية (2) أشبه أن يكون محفوظا فإنه كان ملكا له أتباع، فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغنى به على وجه التخشع، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد قال الله تعالى: " وآتينا داود زبورا " والزبور كتاب مشهور وذكرنا في التفسير الحديث الذي رواه أحمد وغيره أنه أنزل في شهر رمضان، وفيه من المواعظ والحكم ما هو معروف لمن نظر فيه.
* * * وقوله: " وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " أي أعطيناه ملكا عظيما وحكما نافذا.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلين تداعيا إلى داود عليه السلام في بقر ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه.
فأنكر المدعى عليه فأرجأ أمرهما إلى الليل، فلما كان الليل أوحى الله إليه أن يقتل المدعى، فلما أصبح قال له داود: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك
__________
(1) ا: ابن عيينة.
محرفة.
وانظر صحيح البخاري 2 / 120 ط الاميرية.
(2) كذا بالاصل ولعله: وذكره له أشبه.
(*)

فأنا قاتلك لا محالة، فما خبرك فيما ادعيته على هذا ؟ قال: والله يا نبي الله إني لمحق فيما ادعيت عليه، ولكني كنت اعتلت أباه قبل هذا.
فأمر به داود فقتل.
فعظم أمر داود في بني إسرائيل جدا وخضعوا له [ خضوعا (1) ] عظيما.
قال ابن عباس وهو قوله تعالى " وشددنا ملكه " وقوله تعالى " وآتيناه الحكمة " [ أي النبوة (1) ] " وفصل الخطاب " قال شريح والشعبى وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمى وغيرهم: فصل الخطاب
الشهود والايمان يعنون بذلك: " البينة على المدعى واليمين على من أنكر " وقال مجاهد: والسدى هو إصابة القضاء وفهمه.
وقال مجاهد: هو الفصل في الكلام وفي الحكم.
واختاره ابن جرير.
وهذا لا ينافى ما روى عن أبي موسى أنه قول: " أما بعد ".
وقال وهب بن منبه: لما كثر الشر وشهادات الزور في بني إسرائيل أعطى داود سلسلة لفصل القضاء.
فكانت ممدودة من السماء إلى صخرة بيت المقدس، وكانت من ذهب، فإذا تشاجر الرجلان في حق فأيهما كان محقا نالها والآخر لا يصل إليها.
فلم تزل كذلك حتى أودع رجل رجلا لؤلؤة فجحدها منه وأخذ عكازا وأودعها فيه، فلما حضرا عند الصخرة تناولها المدعى فلما قيل للآخر خذها بيدك عمد إلى العكاز فأعطاه المدعى وفيه تلك اللؤلؤة وقال: اللهم أنك تعلم أنى دفعتها إليه.
ثم تناول السلسلة فنالها.
فأشكل أمرها على بني إسرائيل.
ثم رفعت سريعا من بينهم ذكره بمعناه غير واحد من المفسرين.
وقد رواه إسحق بن بشر عن إدريس بن سنان عن وهب به بمعناه
__________
(1) سقطت من ا (*)

" وهل أتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط.
إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزنى في الخطاب.
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم، وظن داود أنما فتناه فاستغفر
ربه وخر راكعا وأناب.
فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والخلف هاهنا قصصا وأخبارا أكثرها إسرائيليات ومنها ما هو مكذوب لا محالة.
تركنا إيرادها في كتابنا قصدا اكتفاء واقتصارا على مجرد تلاوة القصة من القرآن العظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقد اختلف الائمة في سجدة " ص ": هل هي من عزائم السجود أو إنما هي سجدة شكر ليست من عزائم السجود ؟ على قولين.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسى، عن العوام، قال سألت مجاهدا عن سجدة " ص " فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت ؟ قال أو ما تقرأ: " ومن ذريته داود وسليمان " " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل هو ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: في السجود في " ص " ليست من عزائم السجود.
وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها.

وكذا رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أيوب وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال النسائي: أخبرني إبراهيم بن الحسن المقسمى، حدثنا حجاج بن محمد، عن عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في " ص " وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكرا.
تفرد به أحمد ورجاله ثقات.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وهو (1) ] على المنبر " ص " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد معه الناس فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن (2) الناس للسجود فقال: إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزنتم فنزل وسجد.
(3) تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد، حدثنا بكر، هو ابن عمر، وأبو الصديق الناجى، أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب " ص " فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى
__________
(1) ليست في ا (2) كذا في ا موافقا لسنن أبي داود 1 / 223.
ومعنى تشزن: انتصب وتهيأ.
وفي المطبوعة: تشرف.
محرفة.
(3) المطبوعة تشرفتم.
محرفة.
وما أثبته من ا (*) (م 18 - قصص الانبياء 2)

الدواة والقلم وكل شئ بحضرته انقلب ساجدا.
قال: فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد.
تفرد به أحمد.
وروى الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن (1) خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيدالله بن أبي يزيد، قال: قال لي ابن جريج حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلى خلف شجرة، فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودي، فسمعتها تقول وهي ساجدة: " اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها عندك ذخرا وضع عني بها وزرا، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود ".
قال ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة.
ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد ذكر بعض المفسرين أنه عليه السلام مكث ساجدا أربعين يوما وقاله مجاهد والحسن وغيرهما وورد في ذلك حديث مرفوع، لكنه من رواية يزيد الرقاشى وهو ضعيف متروك الرواية.
قال الله تعالى: " فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " أي إن له يوم القيامة لزلفى، وهي القربة التي يقربه الله بها ويدنيه من
__________
(1) ا: وخنيس (*)

حظيرة قدسه بسببها، كما ثبت في حديث: " المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يقسطون في أهليهم وحكمهم وما ولوا ".
وقال الامام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا فضيل، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر ".
وهكذا رواه الترمذي من حديث فضيل بن مرزوق الاغر به وقال
لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سيار، حدثنا جعفر بن سليمان، سمعت مالك بن دينار في قوله: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " قال: يقوم (1) داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش فيقول (2) الله: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني في الدنيا، فيقول: وكيف وقد سلبته فيقول: إني أرده عليك اليوم.
قال فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان (3).
" يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم
__________
(1) ا: يقام (2) ا: ثم يقول (3) ا: الجنة (*)

عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " هذا خطاب من الله تعالى مع داود، والمراد ولاة الامور وحكام الناس، وأمرهم بالعدل واتباع الحق المنزل من الله، لا ما سواه من الآراء والاهواء، وتوعد من سلك غير ذلك وحكم بغير ذلك، وقد كان داود عليه السلام هو المقتدى به في ذلك الزمان (1) في العدل، وكثرة العبادة وأنواع القربات، حتى إنه كان لا يمضى ساعة من آناء الليل وأطراف النهار إلا وأهل بيته في عبادة ليلا ونهارا كما قال تعالى: " اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور " قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام، حدثنا صالح المري (2) عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد، قال قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل
إلى شكرك إلا بنعمتك ؟ قال: فأتاه الوحى: " أن يا داود ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني ؟ قال: بلى يا رب.
قال فإني أرضى بذلك منك " وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر بن بابويه، حدثنا محمد بن يونس القرشى، حدثنا روح بن عبادة، حدثني عبد الله ابن لاحق، عن ابن شهاب قال قال داود: " الحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
فأوحى الله إليه: إنك أتعبت الحفظة يا داود ! " ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن علي بن الجعد، عن الثوري مثله
__________
(1) ط: الوقت.
(2) المطبوعة المزى.
محرفة.
وهو صالح بن بشير المرى، مولاهم، البصري نسب إلى مرة ابن الحارث بن عبد القيس.
اللباب 3 / 129 (*)

وقال عبد الله بن المبارك في في كتاب الزهد: أنبأنا سفيان الثوري، عن رجل، عن وهب بن منبه، قال: إن في حكمة آل داود: حق (1) على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضى فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات وإجمام للقلوب، وحق على العاقل أن يعرف زمانه ويحفظ لسانه ويقبل على شأنه، وحق على العاقل أن لا يظعن إلا في إحدى ثلاث: زاد لمعاده ومرمة لمعاشه، ولذة في غير محرم.
وقد رواه أبو بكر ابن أبي الدنيا، عن أبي بكر بن أبي خيثمة، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي الاغر، عن وهب بن منبه.
فذكره.
ورواه أيضا عن علي بن الجعد، عن عمر بن الهيثم الرقاشى [ عن أبي
الاغر (2) ] عن وهب بن منبه فذكره.
وأبو الاغر هذا هو الذي أبهمه ابن المبارك في روايته.
قاله ابن عساكر.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا بشر بن رافع، حدثنا شيخ من أهل صنعاء يقال له أبو عبد الله، قال سمعت وهب بن منبه، فذكر مثله.
وقد أورد (3) الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام أشياء كثيرة مليحة منها قوله: كن لليتيم كالاب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد.
وروى بسند غريب مرفوعا قال داود: يا زارع السيئات أنت تحصد شوكها وحسكها.
__________
(1) ا: وحق.
(2) سقطت من ا (3) ط: روى.
(*)

وعن داود عليه السلام أنه قال: مثل الخطيب الاحمق في نادى القوم كمثل المغنى عند رأس الميت.
وقال أيضا: ما أقبح الفقر بعد الغنى وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى.
وقال: انظر ما تكره أن يذكر عنك في نادى القوم فلا تفعله إذا خلوت.
وقال: لا تعدن (1) أخاك بما لا تنجزه له فإن ذلك عداوة ما بينك وبينه.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر الواقدي، حدثنى هشام ابن سعد، عن عمر مولى عفرة، قال قالت يهود، لما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج النساء ! انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام ولا والله ماله همة إلا إلى النساء: حسدوه لكثرة نسائه وعابوه بذلك فقالوا لو كان نبيا ما رغب في النساء.
وكان أشدهم في ذلك حيى ابن أخطب فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه صلوات الله وسلامه عليه فقال: " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله "
يعني بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما " يعني ما آتى الله سليمان بن داود كانت له ألف امرأة.
سبعمائة مهرية (2) وثلاثمائة سرية، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة منهن امرأة أوريا أم سليمان بن داود التي تزوجها بعد الفتنة هذا أكثر مما لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الكلبى نحو هذا وأنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة، منهن ثلاثمائة سرية.
وروى الحافظ في تاريخه في ترجمة صدقة الدمشقي الذي يروى عن
__________
(1) ا: لا تواعد.
(2) ا: مهيرة.
(*)

ابن عباس من طريق الفرج بن فضالة الحمصى، عن أبي هريرة الحمصى، عن صدقة الدمشقي، أن رجلا سأل ابن عباس عن الصيام فقال: لاحدثنك بحديث كان عندي في البحث مخزونا، إن شئت أنبأتك بصوم داود فإنه كان صواما قواما وكان شجاعا لا يفر إذا لاقى، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصيام صيام داود.
وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا يكون فيها، وكانت له ركعة من الليل يبكى فيها نفسه ويبكى ببكائه كل شئ ويصرف بصوته المهموم والمحموم.
وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة أيام ومن وسطه ثلاثة أيام ومن آخره ثلاثة أيام يستفتح الشهر بصيام ووسطه بصيام ويختمه بصيام.
وإن شئت أنبأتك يصوم ابن العذراء البتول عيسى بن مريم، فإنه كان يصوم الدهر ويأكل الشعير ويلبس الشعر، يأكل ما وجد ولا يسأل
عما فقد، ليس له ولد يموت ولا بيت يخرب، وكان أينما أدركه الليل صف بين قدميه وقام يصلى حتى يصبح، وكان راميا لا يفوته صيد يريده، وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فيقضى لهم حوائجهم.
وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنت عمران، فإنها كانت تصوم يوماوتفطر يومين.
وإن شئت أنبأتك بصوم النبي العربي الامي محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ويقول إن ذلك صوم الدهر.

وقد روى (1) الامام أحمد عن أبي النضر، عن فرج بن فضالة، عن أبي هرم عن صدقة عن ابن عباس مرفوعا في صوم داود.
ذكر كمية حياته وكيفية وفاته قد تقدم في ذكر الاحاديث الواردة في خلق آدم أن الله لما استخرج ذريته من ظهره فرأى فيهم الانبياء عليهم السلام ورأى فيهم رجلا يزهر فقال: أي رب من هذا ؟ قال: هذا ابنك داود.
قال: أي رب كم عمره ؟ قال: ستون عاما.
قال: أي رب زد في عمره.
قال: لا إلا أن أزيده من عمرك.
وكان عمر آدم ألف عام فزاده أربعين عاما فلما انقضى عمر (2) آدم جاءه ملك الموت فقال: بقى من عمرى أربعون سنة ونسى آدم ما كان وهبه لولده داود فأتمها الله لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة.
رواه أحمد عن ابن عباس، والترمذي وصححه عن أبي هريرة، وابن خزيمة وابن حبان.
وقال الحاكم: على شرط مسلم.
وقد تقدم ذكر طرقه وألفاظه في قصة آدم.
قال ابن جرير: وقد زعم أهل الكتاب أن عمر داود كان سبعا
وسبعين سنة.
قلت: هذا غلط مردود عليهم، قالوا: وكانت مدة ملكه أربعين سنة، وهذا قد يقبل نقله لانه ليس عندنا ما ينافيه ولا ما يقتضيه.
وأما وفاته عليه السلام فقال الامام أحمد في مسنده: حدثنا قبيصة (2) حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب،
__________
(2) ا: عمره.
(2) ا: قتيبة (1) كذا.
ولعلها: رواه.
(*)

عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة فكان إذا خرج أغلق الابواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع.
قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة، والله لنفتضحن بداود.
فجاء داود فإذا الرجل قائم في وسط الدار فقال له داود: من أنت ؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع (1) من الحجاب.
فقال داود: أنت والله إذن ملك الموت مرحبا بأمر الله.
ثم مكث حتى قبضت (2) روحه فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلى على داود.
فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الارض، فقال سليمان للطير: اقبضي جناحا.
قال أبو هريرة: فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وغلبت عليه يومئذ المضرحية.
انفرد بإخراجه الامام أحمد وإسناده جيد قوى رجاله ثقات، ومعنى قوله: " وغلبت عليه يومئذ المضرحية " أي وغلبت على التظليل عليه [ المضرحية وهي (3) ] الصقور الطوال الاجنحة واحدها مضرحي.
قال الجوهرى: وهو
الصقر الطويل الجناح.
وقال السدى عن أبي مالك، عن ابن مالك، عن ابن عباس قال: مات داود عليه السلام فجأة وكان بسبت، وكانت الطير تظله.
وقال السدى
__________
(1) ا: ولا أمتنع.
(2) ا: فزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه.
(3) ليست في ا (4) من ا (*)

أيضا، عن أبي مالك وعن سعيد بن جبير قال: مات داود عليه السلام يوم السبت فجأة.
وقال إسحاق بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، قال مات داود عليه السلام وهو ابن مائة سنة ومات يوم الاربعاء فجأة.
وقال أبو السكن الهجرى: مات إبراهيم الخليل فجأة وداود فجأة وابنه سليمان فجأة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
رواه ابن عساكر.
وروى عن بعضهم أن ملك الموت جاءه وهو نازل من محرابه فقال له: دعني أنزل أو أصعد.
فقال يا نبي الله قد نفدت السنون والشهور والآثار والارزاق.
قال: فخر ساجدا على مرقاة من تلك المراقى فقبضه وهو ساجد.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا وافر بن سليمان، عن أبي سليمان الفلسطيني عن وهب بن منبه قال: إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام فجلسوا في الشمس في يوم صائف قال: وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس، ولم يمت في بني إسرائيل بعد موسى وهرون أحد كانت بنو إسرائيل أشد جزعا عليه
منهم على داود.
قال: فأذاهم الحر فنادوا سليمان عليه السلام أن يعمل (1) لهم وقاية لما أصابهم من الحر، فخرج سليمان فنادى الطير فأجابت فأمرها أن تظل (1) الناس، فتراص بعضها إلى بعض من كل وجه، حتى استمسكت
__________
(1) ا: يعجل (2) ا: فأظلت.
(*)

الريح فكاد الناس أن يهلكوا غما فصاحوا إلى سليمان عليه السلام من الغم، فخرج سليمان فنادى الطير أن أظلى الناس من ناحية الشمس وتنحى ؟ ؟ عن ناحية الريح.
ففعلت فكان الناس في ظل تهب (1) عليهم الريح، فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، حدثنى الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حيمد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر ابن علقمة، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قبض الله داود من بين أصحابه ما فتنوا ولا بدلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سننه وهديه مائتي سنة.
هذا حديث غريب وفي رفعه نظر، والوضين بن عطاء كان ضعيفا في الحديث.
والله أعلم.
__________
(1) ط: وتهب.
(*)

 
 

Document sans titre
 

Warning: main() [function.main]: open_basedir restriction in effect. File(/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php) is not within the allowed path(s): (/mnt/110/sda/d/6/kutub) in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/021.php on line 286

Warning: main(/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php) [function.main]: failed to open stream: Operation not permitted in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/021.php on line 286

Warning: main() [function.include]: Failed opening '/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php' for inclusion (include_path='/mnt/110/sda/d/6/kutub/include:.:/usr/php4/lib/php') in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/021.php on line 286