حكمة تحريم آلات الطرب والغناء
يجب عليك أيها المسلم أن تعتقد أن الله في كل ما شرع لعباده من أمر أو نهي وإباحة - حكمة بل حكما بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها تظهر لبعضهم وتخفى على آخرين ولذلك فالواجب على المسلم حقا أن يبادر إلى طاعة الله ولا يتلكأ في ذلك حتى تتبين له الحكمة فإن ذلك مما ينافي الإيمان الذي هو التسليم المطلق للشارع الحكيم ولذا قال عز وجل في القرآن الكريم : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )
وعلى هذا عاش سلفنا الصالح فأعزهم الله وفتح لهم البلاد وقلوب العباد ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها ولقد كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قصب السبق فيه وكان مثالا صالحا لغيره كما يدل على ذلك موقفه الرائع في قصة صلح الحديبية فيما رواه سهل بن حنيف رضي الله عنه قال :
( صحيح ) أيها الناس اتهموا أنفسكم لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا - وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين - فجاء عمر بن الخطاب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ قال : بلى قال : أليس قتلانا في الجنة
[ 137 ]
وقتلاهم في النار قال : بلى قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال :
يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا
قال : فانطلق عمر - فلم يصبر متغيظا - فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال : بلى قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : " يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا "
قال : فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ب ( الفتح ) فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه فقال : يا رسول الله أو فتح هو ؟ قال : " نعم " فطابت نفسه ورجع
أخرجه البخاري ( 3182 - فتح ) و مسلم ( 5 / 175 - 176 ) والسياق له وأحمد ( 3 / 486 ) وفي رواية لهما عنه :
أيها الناس اتهموا رأيكم
وهي لسعيد بن منصور ( 3 / 2 / 374 ) وابن أبي شيبة ( 15 / 299 )
قال الحافظ ( 13 / 288 ) :
كأنه قال : اتهموا الرأي إذا خالف السنة كما وقع لنا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحلل فأحببنا الاستمرار على الإحرام وأردنا القتال لنكمل
[ 138 ]
نسكنا ونقهر عدونا وخفي علينا ما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم مما حدث عقباه
وأروع مثال مر بي في سيرة أصحابه صلى الله عليه وسلم الدالة على إيثارهم طاعته ولو كان ذلك مخالفا لهواهم ومصلحتهم الشخصية قول ظهير بن رافع قال :
( صحيح ) " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا وطواعية الله ورسوله أنفع لنا نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى "
رواه مسلم وغيره وهو مخرج في " الإرواء " ( 5 / 299 )
لقد ذكرتني هذه الطواعية بتلك المطاوعة التي تعجب منها مؤمنو الجن حينما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون إلى قراءته في صلاة الفجر المشار إليها في أول سورة الجن : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) فأروا أصحابه صلى الله عليه وسلم يصلون بصلاته يركعون بركوعه يسجدون بسجوده قال ابن عباس رضي الله عنهما :
عجبوا من طواعية أصحابه له
رواه أحمد ( 1 / 270 ) وغيره بسند صحيح
والمقصود أن هذه الطواعية يجب أن تكون متحققة في كل مسلم ظاهرا وباطنا سواء كانت موافقة لهواه أو مخالفة ومن لوازم ذلك أن لا يضرب لله الأمثال ولأحكامه فلا يقيس صوت الألحان الخارجة من الإنسان على صوت العندليب والطيور فيقول مثلا : إذا جاز إنشاد الشعر بغير ألحان جاز إنشاده مع
[ 139 ]
الألحان فإن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان ذلك المجموع مباحا كما قال الغزالي - عفا الله عنه - توصلا منه إلى استباحة الألحان الموسيقية أو بعضها على الأقل قياسا على أصوات الطيور وهو المؤلف في أصول الفقه وفيها أنه لا قياس في مورد النص
ولذلك تتابع العلماء - كابن الجوزي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم - في الرد عليه وعلى أمثاله من الصوفية
ولقد ذكرني القياس المذكور بقياس آخر أخبث منه توصل منه صاحبه إلى استحلال النبيذ المسكر ذكره ابن القيم في صدد رده على الصوفية الذين يستحلون السماع بالألحان بمثل القياس المذكور فقال رحمه الله في " مسألة السماع " ( 270 - 271 ) :
الوجه الثاني : أنه لو كان كل واحد من الشعر والتلحين مباحا بمفرده لم يلزم من ذلك إباحتهما عند اجتماعهما فإن التركيب له خاصية يتغير الحكم بها وهذه الحجة بمنزلة حجة من قال : إن خبر الواحد إذا لم يفد العلم عند انفراده لم يفده مع انضمامه إلى غيره
وهي نظير ما يحكى عن إياس بن معاوية :
أن رجلا قال له : ما تقول قي الماء ؟ قال : حلال قال : فالتمر ؟ قال : حلال قال : فالنبيذ ماء وتمر فكيف تحرمه ؟ فقال له إياس :
[ 140 ]
أرأيت لو ضربتك بكف من تراب أكنت أقتلك ؟ قال : لا قال : فإن ضربتك بكف من تبن اكنت أقتلك ؟ قال : لا قال : فإن ضربتك ب [ كف من ] ماء أكنت أقتلك ؟ قال : لا قال : فإن أخذت الماء والتبن والتراب فجعلته طينا وتركته حتى يجف وضربتك به أكنت أقتلك ؟ قال : نعم قال : كذلك النبيذ
ومعنى كلامه أن القهوة المسكرة [ هي ] الحاصلة بالتركيب وكذلك ما نحن فيه الذي يسكر النفوس ويلهيها ويصدها عن ذكر الله وعن الصلاة قوة تحصل بالتركيب والهيئة الاجتماعية وليست الأصوات المجتمعة في استفزازها للنفوس بمنزلة الصوت الواحد وكذلك الصوت الملحن الذي يوقع به الغناء على توقيع معين وضرب معين لا سيما مع مساعدة آلات اللهو له بمنزلة إنشاد الشعر إذا تجرد عن ذلك وهل تروج هذه الشبهة إلا على ضعيف العلم والمعرفة ناقص الحظ منهما جدا ؟
فإن قيل : إن ما ذكرت من وجوب التسليم لأحكام الشرع سواء عرفت الحكمة أو لا هو أمر واجب لا يرتاب فيه مسلم وإن كان بعضهم - مع الأسف - يخالف في ذلك عمليا كما لا يشك أحد في وجوب التسليم لتحريم الربا ونحوه و إن كان الكثير من المسلمين يستحلونه عمليا وبخاصة في هذا الزمان وبناء على ما تقدم من الأدلة على تحريم الغناء المبين هناك يجب الإعراض عنه عمليا وعدم الاستماع له ولكن السؤال الذي يطرح نفسه - كما يقولون اليوم - هو : هل ثبت في الشرع ما يبين حكمة تحريمه ؟
[ 141 ]
فأقول - وبالله التوفيق - :
نعم لقد وردت آثار كثيرة عن السلف من الصحابة وغيرهم تدل على حكمة التحريم وهي أنها تلهي عن ذكر الله تعالى وطاعته والقيام بالواجبات الشرعية مقتبسين ذلك من تسمية الله تعالى إياه ب ( لهو الحديث ) في قوله : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ) وأنها نزلت في الغناء ونحوه فأذكر منها ما ثبت إسناده إليهم :
فأولهم : ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال :
نزلت في الغناء وأشباهه
[ 142 ]
أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " ( 1265 ) وابن أبي شيبة ( 6 / 310 ) وابن جرير في " التفسير " ( 21 / 40 ) وابن أبي الدنيا في " ذم الملاهي " والبيهقي في " السنن " ( 10 / 221 و 223 ) من طرق عنه
وثانيهم عبد الله بن مسعود أنه سئل عن هذه الآية المذكورة ؟ فقال :
هو الغناء والذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات
أخرجه ابن أبي شيبة أيضا وكذا ابن جرير وابن أبي الدنيا والحاكم ( 2 / 411 ) وعنه البيهقي و " شعب الإيمان " ( 4 / 278 / 5096 ) وابن الجوزي في " تلبيس إبليس " ( ص 246 ) وقال الحاكم :
صحيح الإسناد
ووافقه الذهبي وهو كما قالا وصححه ابن القيم
وثالثهم عكرمة قال شعيب بن يسار : سألت عكرمة عن ( لهو الحديث ) ؟ قال :
هو الغناء
أخرجه البخاري في " التاريخ " ( 2 / 2 / 217 ) وابن جرير أيضا وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا - واللفظ له - ومن طريقه البيهقي ورجاله ثقات غير شعيب هذا روى عنه ثقتان ووثقه ابن حبان ( 4 / 355 ) فهو حسن الإسناد إن شاء الله ولا سيما وقد تابعه أسامة بن زيد عند ابن أبي شيبة رقم ( 1175 ) وابن جرير ( 21 / 4140 )
[ 143 ]
وأسامة بن زيد هو الليثي هنا وهو حسن الحديث فبهذه المتابعة القوية صح الأثر والحمد لله
ورابعهم : مجاهد مثله
أخرجه ابن أبي شيبة ( برقم 1167 و 1179 ) وابن جرير وابن أبي الدنيا ( 4 / 1 و 5 / 2 ) من طرق عنه بعضها صحيح وأبو نعيم في " الحلية " ( 3 / 286 )
وفي رواية لابن جرير من طريق ابن جريج سمعته من مجاهد قال :
( اللهو ) : الطبل
و رجاله كلهم ثقات فهو صحيح إن كان ابن جريج سمعه من مجاهد
وفي الباب عن الحسن البصري قال : نزلت هذه الآية ( ومن الناس . . ) إلخ في الغناء والمزامير
عزاه السيوطي في " الدر المنثور " ( 5 / 159 ) [ لابن أبي حاتم ] وسكت عنه كغالب عادته ولم أقف على إسناده لأنظر فيه
ولهذا قال الواحدي في تفسيره " الوسيط " ( 3 / 441 ) :
أكثر المفسرين على أن المراد ب ( لهو الحديث ) الغناء قال أهل المعاني :
ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن
[ 144 ]
وإن كان اللفظ ورد ب ( الاشتراء ) لأن هذا اللفظ يذكر في الاستبدال والاختيار كثيرا
ومن الآثار السلفية الدالة على حكمة التحريم :
أولا : عن ابن مسعود قال :
الغناء ينبت النفاق في القلب
أخرجه ابن أبي الدنيا في " ذم الملاهي " ( ق 4 / 2 ) ومن طريقه البيهقي في " السنن " ( 10 / 223 ) وفي " شعب الإيمان " ( 4 / 278 / 5098 و 5099 ) من طريق حماد عن إبراهيم قال : قال عبد الله : فذكر
قلت : وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات إلا أن ظاهره الانقطاع فإن إبراهيم - وهو ابن يزيد النخعي - لم يدرك عبد الله بن مسعود وبه أعله بعض من خرج أحاديث ذم الغناء من المعاصرين وفاته أنه صح عن إبراهيم أنه قال للأعمش لما قال له : أسند لي عن ابن مسعود :
إذا حدثتكم عن رجل عن ( عبد الله ) فهو الذي سمعت وإذا قلت :
قال ( عبد الله ) " فهو عن غير واحد عن ( عبد الله ) "
فأقول : ومن المعلوم أن إبراهيم النخعي تابعي ثقة جليل فإذا روى عن غير واحد من شيوخه فهو على الأقل من أمثاله من التابعين إن لم يكونوا أكبر منه
[ 145 ]
سنا فروايته عنهم مما يلقي في النفس الثقة والاطمئنان لروايتهم لأنهم جمع
فيبعد جدا أن يهموا في روايتهم عن ابن مسعود فضلا عن التواطؤ على الكذب عليه كما هو ظاهر وبصورة عامة لتابعيتهم وبخاصة أنهم من شيوخ إبراهيم وهو يروي عنهم ولا سيما و في ترجمته أنه كان صيرفي الحديث كما قال الأعمش فليس من المعقول البتة أن يروي هو عنهم وهو غير مطمئن لصدقهم وحفظهم وهم بالنسبة إلينا جمع ينجبر به جهالتهم وكلام ابن تيمية المتقدم صفحة ( 70 ) في تقوية الحديث الضعيف والمرسل بالطرق يدل على هذا ولذلك صحح جماعة من الأئمة مراسيل إبراهيم وخص ذلك البيهقي بما أرسله عن ابن مسعود كما في " مراسيل العلائي " ( 168 ) وأقره الحافظ في " التهذيب " وهذا أعم مما لو قال : " قال عبد الله " فيشمل ما لو قال : " عن عبد الله " ويؤيده أنه ليس ثمة فرق ظاهر بين العبارتين أولا ولأنه لم يقل في كل منهما : " عن رجل " تبرئة لذمته فاستويا في الحكم
وهناك حديث - لكنه مرفوع - يشبه هذا من حيث إنه من رواية جماعة من التابعين لم يسموا ومع ذلك قواه بعض الحفاظ المتأخرين لانجبار جهالتهم بجمعهم وهو مخرج في " غاية المرام " ( 471 ) فليراجعه من شاء
وأما الراوي عن إبراهيم ( حماد ) فهو ابن أبي سليمان الكوفي فهو كما قال الذهبي في " الكاشف " :
ثقة إمام مجتهد كريم جواد
ولذلك قال في " الميزان " :
[ 146 ]
تكلم فيه للإرجاء ولولا ذكر ابن عدي له في " كامله " لما أوردته "
وقال الحافظ في " التقريب "
صدوق له أوهام
قلت : فمثله يحتج به إلا إذا تبين وهمه بمخالفته لمن هو أوثق منه أو نحو ذلك ولا شيء من ذا هنا ولذلك فما أنصف من ضعفه مطلقا من المعاصرين
وله طريق آخر يرويه سعيد بن كعب المرادي عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود بلفظ أتم قال :
الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع والذكر ينبت الإيمان كما ينبت الماء البقل
أخرجه ابن أبي الدنيا ( ق 4 / 2 ) ومن طريقه البيهقي ( 10 / 223 )
وهذا منقطع محمد بن عبد الرحمن بن يزيد - وهو النخعي الكوفي - لم يدرك ابن مسعود وهو ثقة ولا أستبعد أن يكون تلقاه عن إبراهيم النخعي فإنه من هذه الطبقة
وسعيد بن كعب المرادي لم يوثقه غير ابن حبان ( 8 / 262 )
وقد روي الطرف الأول منه من طريق شيخ عن أبي وائل عن ابن مسعود مرفوعا
[ 147 ]
لكن الشيخ هذا مجهول هذا مجهول لم يسم ولذلك كنت خرجته في " الضعيفة " برقم ( 2430 ) وأشار إليه ابن القيم في " إغاثة اللهفان " ( 1 / 248 ) وقال :
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله
ولكنه في حكم المرفوع إذ مثله لا يقال من قبل الرأي كما قال الآلوسي في " روح المعاني " ( 11 / 68 )
ثانيا : عن الشعبي قال :
إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع وإن الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع
أخرجه ابن نصر في " قدر الصلاة " ( ص 151 / 2 - 152 / 1 ) من طريق عبد الله بن دكين عن فراس بن يحيى ( الأصل : ابن عبد الله خطأ ) عنه
قلت : وهذا إسناده حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن دكين وهو أبو عمر الكوفي البغدادي مختلف فيه قال الذهبي في " المغني " :
معاصر لشعبة وثقه جماعة وضعفه أبو زرعة
وقال الحافظ في " التقريب " :
صدوق يخطئ
[ 148 ]
وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن في إسناده كذاب ولذلك خرجته في " الضعيفة " رقم ( 6515 )
( فائدة ) : قال ابن القيم رحمه الله عقب أثر ابن مسعود المتقدم ( 1 / 248 ) :
فإن قيل : فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي ؟
قيل : هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى وقام كل جهول يطبب الناس
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء
فمن خواصه : أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي وينهى عن اتباع خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله
[ 149 ]
ويحسنه ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح فهو والخمر رضيعا لبان وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه وخدينه وصديقه عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ وهو جاسوس القلب وسارق المروءة وسوس العقل يتغلغل في مكامن القلوب ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى محل التخيل فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره وفرح به شيطانه وشكا إلى الله تعالى إيمانه وثقل عليه قرآنه وقال : يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه وأبدى من سره ما كان يكتمه وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب والزهزهة والفرقعة بالأصابع فيميل برأسه ويهز منكبيه ويضرب الأرض برجليه ويدق على أم رأسه بيديه ويثب وثبات الدباب ويدور دوران الحمار حول الدولاب ويصفق بيديه تصفيق النسوان ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران وتارة يتأوه تأوه الحزين وتارة يزعق زعقات المجانين ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول :
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا على طيب السماع إلى الصباح ؟
ودارت بيننا كأس الأغاني فأسكرت النفوس بغير راح
[ 150 ]
فلم تر فيهم إلا نشاوى سرورا والسرور هناك صاحي
إذا نادى أخو اللذات فيه أجاب اللهو حي على السماح
ولم نملك سوى المهجات شيئا أرقناها لألحاظ الملاح
وقال بعض العارفين : السماع يورث النفاق في قوم والعناد في قوم والكذب في قوم والفجور في قوم والرعونة في قوم
إلى أن قال :
فالغناء يفسد القلب وإذا فسد القلب هاج في النفاق
وبالجملة فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل الذكر والقرآن تبين لهم حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها وبالله التوفيق
قلت : وبعد أن تبينت الحكمة في تحريم الغناء من الآثار المتقدمة وهي أنه يلهي عن طاعة الله وذكره وهذا مشاهد وحينئذ فالملتهون به إسماعا واستماعا لكل منهم نصيبه من الذم المذكور في الآية الكريمة : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله . . . ) وذلك بحسب الالتهاء قلة وكثرة وقد عرفت أن ( الاشتراء ) بمعنى الاستبدال والاختيار مع ملاحظة هامة وهي أن اللام في قوله تعالى : ( ليضل ) إنما هو لام العاقبة كما في
تفسير الواحدي " أي : ليصير أمره إلى الضلال كما قال ابن الجوزي في " الزاد " ( 6 / 317 ) فليس هو للتعليل كما يقول بعضهم وله وجه بالنسبة للكفار الذين يتخذون آيات الله هزوا ولهذا قال ابن القيم رحمه الله ( 1 / 240 ) :
[ 151 ]
إذا عرف هذا فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا وهو الثقل والصمم وإذا علم منه شيئا استهزأ به
فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم فلهم حصة ونصيب من هذا الذم
يوضحه : أنك لا تجد أحدا عنى بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علما وعمل ا وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك وثقل عليه سماع القرآن وربما حمله الحال على أن يسكت القارىء ويستطيلس قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته وأقل ما في هذا : أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه
والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها فأما من مات قلبه وعظمت فتنته فقد سد على نفسه طريق النصيحة ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . [ المائدة : 41 ]
قلت : ومن تلك الآثار السلفية وتعقيب ابن القيم عليها بكلامه الرائع المفيد يتبين لك جليا خطأ ابن حزم في قوله بعد أن ساق أكثرها :
[ 152 ]
" لا حجة في هذا لوجوه :
الأول : أنه لا حجة لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم
الثاني : أنه قد خالف غيرهم من الصحابة والتابعين
والثالث : أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها لأن فيها : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغيرعلم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ) وهذه صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف إذا اتخذ سبيل الله تعالى هزوا . . . "
فأقول مجيبا عليه :
أما عن ( الأول ) : فهو كلمة حق أريد بها باطل لأنه يوهم أن الآثار مخالفة لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في تفسير الآية و لا شي من ذلك البتة و إنما هي مخالفة لتفسيره الجامد هو وحده ويكفي القارئ اللبيب برهانا على خطئه أن يتصور هذه الحقيقة : الآثار السلفية في جانب و ابن حزم في جانب
وأما عن ( الثاني ) : فجعجعة لا طحن فيها إذ لا مخالف لهم ولو كان شيء من ذلك لبادر إلى ذكره كما هي عادته عند العارفين بأسلوبه في رده على مخالفيه
وأما عن ( الثالث ) : فتقدم في كلام ابن القيم الأخير وكأنه - رحمه الله - كان يعني به الرد على قول ابن حزم هذا وهو قوي وواضح جدا ألا ترى أن بعض المسلمين اليوم يلتهون في مجالسهم ومحافلهم بالكلام الدنيوي
[ 153 ]
وبشرب الدخان واللعب بالطاولة ( النرد ) بل وبالقمار في ( المقاهي ) وغيرها وهم يسمعون من ( الراديو ) قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) يسمعون هذا وأمثاله من آيات الله تتلى وهم في حديثهم ولهوهم سادرون كأن في آذانهم وقرا أفكفار هؤلاء يا ابن حزم ؟ بل إن موقف هؤلاء ولهوهم ليذكرني بقول ابن عباس وغيره من السلف : " كفر دون كفر " فليس كل كفر يخرج عن الملة ولذلك فلهؤلاء وأمثالهم نصيب من الذم المذكور في الآية كل بقدره وقد أشار إلى هذا المعنى العلامة المفسر الشهير ابن عطية الأندلسي في تفسيره " المحرر الوجيز " ( 13 / 19 ) - وكأنه يرد على ابن حزم أيضا - :
والآية باقية المعنى في أمة محمد ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر ولا يتخذوا الآيات هزوا ولا عليهم هذا الوعيد بل ليعطل عبادة ويقطع زمانا بمكروه وليكون من جملة العصاة والنفوس الناقصة
وأريد أن أسترعي الانتباه إلى تناقض وقع فيه ابن حزم فإن قوله المذكور في الوجه الأول يستلزم أنه مسلم بثبوت تفسير الآية بما تقدم عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما وإلا لبادر إلى تضعيفه ولم يقل : " لا حجة لأحد . . "
ولذلك فهو في " رسالته " في الملاهي مخالف لذلك تمام المخالفة فإنه لم يقل - أولا - القول المذكور وثانيا : صرح بالتضعيف فقال ( ص 97 ) :
ما ثبت عن أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول بعض المفسرين ممن لا
[ 154 ]
تقوم بقوله حجة
وهذا مناقض لتسليمه المشار إليه آنفا وهو الحق الذي لا ريب فيه كيف لا وأقوال السلف مقدمة اتفاقا على أقوال الخلف ولا سيما مع كثرة السلف وقلة الخلف فكيف وأكثر المفسرين موافق لهم كما سبق ( ص 144 ) عن " تفسير الواحدي " وهو كما قال القرطبي ( 14 / 52 ) :
أعلى ما قيل في هذه الآية وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ( ثلاث مرات ) أنه الغناء
وسبق عن الآلوسي أنه في حكم المرفوع
فهذا الحق ليس به خفاء فدعني عن بنيات الطريق
واعلم - أخي المسلم - أن مما يؤكد أو على الأقل يدل على حكمة تحريم الغناء قاعدة سد الذرائع التي كنت أشرت إليها في صدد الرد على الشيخ محمد أبي زهرة وتلميذيه محمد الغزالي ويوسف القرضاوي في المقدمة صفحة ( 8 ) فإن الأخذ بها هنا يكفي لما يترتب - عادة - من المفاسد والمخالفات بسبب الغناء والاستماع إليه
ثم رأيت لابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه " مسألة السماع " كلاما جيدا متينا في تطبيق هذه القاعدة على مسألتنا هذه فما أحببت إلا أن أمتع القراء به لما فيه من البيان والحجة والفائدة قال رحمه الله وأثابه خيرا ( ص 167 - 168 ) :
والعارف من نظر في الأسباب إلى غاياتها ونتائجها وتأمل مقاصدها
[ 155 ]
وما تؤول إليه ومن عرف مقاصد الشرع في سد الذرائع المفضية إلى الحرام قطع بتحريم هذا السماع فإن النظر إلى الأجنبية واستماع صوتها حاجة حرام سدا للذريعة وكذلك الخلوة بها
ومحرمات الشريعة قسمان :
قسم حرم لما فيه من المفسدة
وقسم حرم لأنه ذريعة إلى ما اشتمل على المفسدة
فمن نظر إلى صورة هذا المحرم ولم ينظر إلى ما هو وسيلة إليه استشكل وجه تحريمه وقال : أي مفسدة في النظر إلى صورة جميلة خلقها الله تعالى وجعلها آية دالة عليه ؟ وأي مفسدة في صوت مطرب بآلة تؤديه أو استماع كلام موزون بصوت حسن ؟ وهل هذا إلا بمنزلة سماع أصوات الطيور المطربة ورؤية الأزهار والمناظر المستحسنة من الأماكن المعجبة البناء والأشجار والأنهار وغيرها ؟
فيقال لهذا القائل : تحريم هذا النظر إلى الصور وهذه الآلات المطربة من تمام حكمة الشارع وكمال شريعته ونصيحته للأمة فإنه حرم ما اشتمل على المفاسد وما هو وسيلة وذريعة إليه ولو أباح وسائل المفاسد مع تحريمها لكان تناقضا ينزه عنه ولو أن عاقلا من العقلاء حرم مفسدة وأباح الوسيلة المفضية إليها لعده الناس سفيها متلاعبا وقالوا : إنه متناقض وهل يمكن لمن شم رائحة الشريعة والفقه في الدين أن يرد هذا الكلام ؟ وهل هو إلا بمثابة أن يقال : أي مفسدة في الصلاة لله بعد الصبح وبعد العصر حتى ينهى عنها ؟ وأي مفسدة
[ 156 ]
في تحريم الصلاة إلى القبور وفي النهي عن الصلاة فيها ؟ وأي مفسدة في تقدم رمضان بيوم أو يومين ؟ وعن سب آلهة المشركين في وجوههم ؟ إلى أضعاف أضعاف هذا مما نهى عنه الشارع سدا لذريعة إفضائه إلى المحرم الذي يكرهه ويبغضه وهل هذا إلا محض حكمته ورحمته وصيانته لعباده وحميته لهم من المفاسد وأسبابها ووسائلها ؟
والعاقل العارف بالواقع يعلم أن إفضاء هذا السماع إلى ما حرمه الله ورسوله إن لم يزد على إفضاء النظر فليس بدونه بل كثيرا ما يكون إفضاؤه فوق إفضاء الخمر ؟ فإن سكر الخمر إفاقة صاحبه سريعة وسكر السماع لا يستفيق صاحبه إلا في عسكر الهالكين
قلت : وقد صدق ابن القيم رحمه الله فإن أثر السماع في المبتلين به ظاهر ومشاهد كما تقدمت الإشارة إلى ذلك وحسبي أن أذكر لك مثالا واحدا مما شهدته بنفسي مما يجسد في الأذهان المعنى الصحيح لقوله تعالى : ( لهو الحديث ) فقد كنت في المسجد يوم الجمعة أستمع إلى الخطبة وبجانبي شاب في نحو الثلاثين من العمر وقد جلس متربعا وهو يطقطق بأصابعه على الأرض كما لو كان يسمع أغنية فهو يرقص أصابعه معها وأشرت إليه بالامتناع والاستماع إلى الخطبة
فهذه الحادثة من حوادث كثيرة تدل دلالة قاطعة على أن السماع قد صد أهله عن ذكر الله - كالخمر - وعن الاستماع إليه والله عز وجل يقول : ( إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) ومن المعلوم أن الآية تشمل الجمعة كما في بعض الآثار وهو اختيار ابن كثير فقد صدهم ( اللهو ) عن الذكر والاستماع إليه والله المستعان
[ 157 ]
الغناء الصوفي والأناشيد الإسلامية
بعد أن بينا الغناء المحرم بقسميه : بالآلة وبدونها معتمدين في ذلك على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى الآثار السلفية وأقوال الأئمة فقد آن لنا أن نتحدث عن الغناء الصوفي وعما يعرف اليوم ب ( الأناشيد الإسلامية أو الدينية ) فأقول وبالله أستعين :
إن مما لا شك فيه أنه كما لا يجوز أن لا نعبد أحدا إلا الله تحقيقا لشهادة أن لا إله إلا الله فكذلك لا يجوز لنا أن نعبد الله أو نتقرب إليه إلا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تحقيقا لشهادة ( محمد رسول الله ) فإذا تحقق المؤمن بذلك كان محبا لله متبعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن أحبه الله كان الله معه وناصرا له
وقد كنت ذكرت في مقدمة تلعيقي على رسالة العز بن عبد السلام رحمه الله " بداية السول في تفضيل الرسول " بعد حديثين معروفين في حب الله والرسول وأن من كان ذلك فيه وجد حلاوة الإيمان ما نصه :
واعلم أيها الأخ المسلم أنه لا يمكن لأحد أن يرقى إلى هذه المنزلة من الحب لله ورسوله إلا بتوحيد الله تعالى في عبادته دون سواه وبإفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع دون غيره من عباد الله لقوله تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) وقوله : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) وقوله صلى الله عليه وسلم :
( حسن )
والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا اتباعي "
قلت : فإذا كان مثل موسى كليم الله لا يسعه أن يتبع غير النبي صلى الله عليه وسلم فهل يسع ذلك غيره ؟ فهذا من الأدلة القاطعة على وجوب إفراد النبي صلى الله عليه وسلم في الاتباع وهو من لوازم شهادة " أن محمدا رسول الله " ولذلك جعل الله تبارك وتعالى في الآية المتقدمة اتباعه صلى الله عليه وسلم - دون سواه - دليلا على حب الله إياه ومما لا شك فيه أن من أحبه الله كان الله معه في كل شيء كما في الحديث القدسي الصحيح :
وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه
رواه البخاري . وهو مخرج في " الصحيحة " ( 1640 )
وإذا كانت هذه العناية الإلهية إنما هي بعبده المحبوب من الله كان واجبا على كل مسلم أن يتخذ السبب الذي يجعله محبوبا عند الله ألا وهو اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده دون سواه وبذلك فقط يحظى بالعناية الخاصة من مولاه تبارك وتعالى ألست ترى أنه لا سبيل إلى معرفة الفرائض وتميزها من النوافل إلا باتباعه صلى الله عليه وسلم وحده ؟ "
إذا عرف هذا فإني أرى لزاما علي انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم :
( صحيح ) " الدين النصيحة " أن أذكر من ابتلي من إخواننا المسلمين - من كانوا وحيثما كانوا
[ 159 ]
بالغناء الصوفي أو بما يسمونه ب ( الأناشيد الدينية ) اسماعا و استماعا بما يلي :
أولا : أن مما لا يرتاب فيه عالم من علماء المسلمين العارفين حقا بفقه الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح الذين أمرنا بالتمسك بنهجهم ونهينا عن مخالفة سبيلهم في مثل قوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) أقول : لا يخفى على أحد من هؤلاء العلماء أن الغناء المذكور محدث لم يكن معروفا في القرون المشهود لها بالخيرية
ثانيا : أنه من المسلم عندهم أنه لا يجوز التقرب إلى الله إلا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تقدم بيانه وقد ضرب لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بعض الأمثلة التي تؤكد لكل ذي علم منصف ما ذكرنا فقال رحمه الله تعالى :
ومن المعلوم أن الدين له ( أصلان ) فلا دين إلا ما شرع الله ولا حرام إلا ما حرمه الله والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله وشرعوا دينا لم يأذن به الله
ولو سئل العالم عمن يعدو بين الجبلين هل يباح له ذلك ؟ قال : نعم فإذا قيل : إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة ؟ قال : إن فعله على هذا الوجه [ فهو ] حرام منكر يستتاب فاعله فإن تاب وإلا قتل
ولو سئل عن كشف الرأس ولبس الإزار والرداء ؟ أفتى بأن هذا جائز فإذا قيل : إنه يفعله على وجه الإحرام كما يحرم الحاج ؟ قال : إن هذا حرام منكر
[ 160 ]
ولو سئل عمن يقوم في الشمس ؟ قال : هذا جائز فإذا قيل : إنه يفعله على وجه العبادة ؟ قال : هذا منكر كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما :
( صحيح ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال :
من هذا ؟ "
قالوا : هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ويستظل ولا يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
مروه فليتكلم وليجلس وليستظل وليتم صومه
فهذا لو فعله لراحة أو غرض مباح لم ينه عنه لكن لما فعله على وجه العبادة نهي عنه
وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت لم يحرم عليه ذلك ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة كما لو كانوا يفعلونه في الجاهلية . . كان عاصيا مذموما مبتدعا والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعاصي يعلم أنه عاص فيتوب والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب ولهذا من حضر السماع للعب أو لهو لا يعده من صالح عمله ولا يرجو به الثواب
وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينا وإذا نهي عنه
[ 161 ]
كان كمن نهي عن دينه ورأى أنه قد انقطع عن الله وحرم نصيبه من الله إذا تركه
فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين ولا يقول أحد من أئمة المسلمين :
إن اتخاذ هذا دينا طريقا إلى الله تعالى أمر مباح بل من جعل هذا دينا وطريقا إلى الله تعالى فهو ضال مضل مخالف لإجماع المسلمين
ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلا متكلما في الدين بلا علم "
مجموع الفتاوى
( 11 / 631 - 633 )
ثالثا : إن من المقرر عند العلماء أنه لا يجوز التقرب إلى الله بما لم يشرعه الله ولو كان أصله مشروعا كالأذان مثلا لصلاة العيدين وكالصلاة التي تسمى بصلاة الرغائب وكالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند العطاس ومن البائع عند عرضه بضاعته للزبون - ونحو ذلك كثير وكثير جدا - من محدثات الأمور التي يسميها الإمام الشاطبي رحمه الله ب " البدع الإضافية " وحقق في كتابه العظيم حقا " الاعتصام " دخولها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم :
( صحيح ) " كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار "
فإذا عرف ذلك فالتقرب إلى الله بما حرم يكون محرما من باب أولى بل هو شديد التحريم لما فيه من المخالفة والمشاققة لشريعة الله وقد توعد الله من
[ 162 ]
فعل ذلك بقوله : ( ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب )
يضاف إلى ذلك أن فيه تشبها بالكفار من النصارى وغيرهم ممن قال الله تعالى فيهم : ( الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا ) وبالمشركين الذين قال فيهم : ( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ) قال العلماء : ( المكاء ) : الصفير و ( التصدية ) : التصفيق
ولذلك اشتد إنكار العلماء علهم قديما وحديثا فقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
تركت بالعراق شيئا يقال له : ( التغيير ) أحدثته الزنادقة يصدون الناس عن القرآن
وسئل عنه أحمد ؟ فقال : " بدعة " ( وفي رواية : فكرهه ونهى عن استماعه ) وقال : [ إذا رأيت إنسانا منهم في طريق فخذ في طريق أخرى ]
و ( التغيير ) : شعر يزهد في الدنيا يغنى به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه كما قال ابن القيم وغيره
[ 163 ]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " المجموع " ( 11 / 570 ) :
وما ذكره الشافعي - رضي الله عنه - من أنه من إحداث الزنادقة - [ فهو ] كلام إمام خبير بأصول الإسلام فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم كما ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في
مسألة السماع " عن ابن الراوندي قال :
اختلف الفقهاء في السماع فأباحه قوم و كرهه قوم فأنا أوجبه - أو قال : آمر به
فخالف إجماع العلماء في الأمر به
والفارابي كان بارعا في الغناء الذي يسمونه ( الموسيقى ) وله فيه طريقة عند أهل صناعة الغناء وحكايته مع ابن حمدان مشهورة لما ضرب فأبكاهم ثم أضحكهم ثم نومهم ثم خرج "
وقال ( ص 565 ) :
[ 164 ]
" وقد عرف بالاضطراب من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا إلى استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب أو الدف كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره ولا لعامي ولا لخاصي "
ثم قال الشيخ ( 573 - 576 ) :
ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفى ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه فهو للروح كالخمر للجسد يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس
ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون لذة بلا تمييز كما يجد شارب الخمر بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر ويصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر حتى يقتل بعضهم بعضا من غير مس بيد بل بما يقترن بهم من الشياطين فانه يحصل لهم أحوال شيطانية بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال ويتكلمون على ألسنتهم كما يتكلم الجني على لسان المصروع : إما بكلام من جنس كلام الأعاجم الذين لا يفقه كلامهم كلسان الترك أو الفرس أو غيرهم ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان غريبا لا يحسن أن يتكلم بذلك بل يكون الكلام من جنس كلام من
[ 165 ]
تكون تلك الشياطين من إخوانهم وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى وهذا يعرفه أهل المكاشفة
شهودا وعيانا "
وهؤلاء الذين يدخلون النار مع خروجهم عن الشريعة هم من هذا النمط فان الشياطين تلابس أحدهم بحيث يسقط إحساس بدنه حتى أن المصروع يضرب ضربا عظيما وهو لا يحس بذلك ولا يؤثر في جلده فكذلك هؤلاء تلبسهم الشياطين وتدخل بهم النار وقد تطير بهم في الهواء وإنما يلبس أحدهم الشيطان مع تغيب عقله كما يلبس الشيطان المصروع
وبأرض الهند والمغرب ضرب من الزط يقال لأحدهم : المصلي فإنه يصلى النار كما يصلى هؤلاء وتلبسه ويدخلها ويطير في الهواء ويقف على رأس الزج ويفعل أشياء أبلغ مما يفعله هؤلاء وهم من الزط الذين لا خلاق لهم والجن تخطف كثيرا من الإنس وتغيبه عن أبصار الناس وتطير بهم في
[ 166 ]
الهواء وقد باشرنا من هذه الأمور ما يطول وصفه وكذلك يفعل هذا هؤلاء المتولهون والمنتسبون إلى بعض المشائخ إذا حصل له وجد سماعي وعند سماع المكاء والتصدية منهم من يصعد في الهواء ويقف على زج الرمح ويدخل النار ويأخذ الحديد المحمى بالنار ثم يضعه على بدنه وأنواع من هذا الجنس ولا تحصل له هذه الحال عند الصلاة ولا عند الذكر ولا عند قراءة القرآن لأن هذه عبادات شرعية إيمانية إسلامية نبوية محمدية تطرد الشياطين وتلك عبادات بدعية شركية شيطانية فلسفية تجلب الشياطين
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده " وقد ثبت فى الحديث الصحيح : " أن أسيد بن حضير لما قرأ سورة الكهف تنزلت الملائكة لسماعها كالظلة فيها السرج "
ولهذا كان المكاء والتصدية يدعو إلى الفواحش والظلم ويصد عن حقيقة ذك الله تعالى والصلاة كما يفعل الخمر والسلف يسمونه تغبيرا لأن التغبير هو الضرب بالقضيب على جلد من الجلود وهو ما يغبر صوت الإنسان
[ 167 ]
على التلحين فقد يضم إلى صوت الإنسان إما التصفيق بأحد اليدين على الأخرى وإما الضرب بقضيب على فخذ وجلد وإما الضرب باليد على أختها أو غيرها على دف أو طبل كناقوس النصارى والنفخ في صفارة كبوق اليهود فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته "
ومن العلماء الذين بالغوا في الإنكار على غناء الصوفية القاضي أبو الطيب الطبري فقال :
هذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين لأنهم جعلوا الغناء دينا وطاعة ورأيت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة
ومنهم الإمام الطرطوشي سئل عن قوم في مكان يقرؤون شيئا من القرآن ثم ينشدون لهم منشد شيئا من الشعر فيرقصون ويطربون ويضربون بالدف والشبابة هل الحضور معهم حلال أو لا ؟
فأجاب : مذهب الصوفية هذا بطالة وجهالة وضلالة وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار فأتوا يرقصون حوله ويتواجدون وهو - أي :
[ 168 ]
الرقص - دين الكفار وعباد العجل وإنما كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطل هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين "
ومنهم الإمام القرطبي قال بعد أن ذكر الغناء الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن وفيه وصف النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة ولا يختلف في تحريمه :
وأما ما أبتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة وانتهى التواقع بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وأن ذلك يثمر سني الأحوال وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرقة والله تعالى المستعان
[ 169 ]
وقد أفتى بنحو هذا الإمام الحافظ ابن الصلاح في فتوى له مسهبة جوابا على سؤال من بعضهم عمن يستحلون الغناء بالدف والشبابة مع الرقص والتصفيق ويعتقدون أن ذلك حلال وقربة وأنه من أفضل العبادات ؟
فأجاب رحمه الله بما خلاصته مما يناسب المقام قال :
لقد كذبوا على الله سبحانه وتعالى وشايعوا بقولهم هذا باطنية الملحدين وخالفوا إجماع المسلمين ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )
ومنهم الإمام الشاطبي رحمه الله فقال إجابة عن سؤال وجه إليه عن قوم ينتمون إلى الصوفية يجتمعون فيذكرون الله جهرا بصوت واحد ثم يغنون ويرقصون ؟ :
إن ذلك كله من البدع المحدثات المخالفة طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان فنفع الله بذلك من شاء من خلقه
[ 170 ]
ثم ذكر أن الجواب لما وصل إلى بعض البلاد قامت القيامة على العاملين بتلك البدع وخافوا اندراس طريقتهم وانقطاع أكلهم منها فلجأوا إلى فتاوى لبعض شيوخ الوقت يستغلونها لصالح بدعتهم فرد الشاطبي عليهم وبين أنها حجة عليهم
وبسط الكلام في ذلك جدا في نحو ثلاثين صفحة ( 358 - 388 ) فمن شاء التوسع رجع إليه
وكان قبل ذلك ذكر أصولا ومآخذ يعتمد عليها أهل البدع والأهواء وبين بطلانها ومخالفتها للشرع بيانا شافيا فرأيت أن أقدم إلى القراء خلاصة عنها لأهميتها ولأن علماء الأصول لم يبسطوا القول في بيانها كما قال هو نفسه رحمه الله ( 1 / 297 ) فاطلبها من الحاشية
[ 171 ]
ومنهم العلامة المحقق الأديب الأريب ابن قيم الجوزية وقد بلغ الغاية في الاحتجاج لتحريم الغناء والملاهي والغناء الصوفي في كتابه الكبير " الكلام في مسألة السماع " وقد توسع جدا في الاستدلال على ذلك بالكتاب والسنة والآثار السلفية وبيان مذاهب العلماء والمراجحة بينها والرد على المستحلين لما حرم الله ومن طرائفه أنه عقد مجلس مناظرة بين صاحب غناء وصاحب قرآن في فصول رائعة ممتعة الحجة فيها ساطعة على المستحلين والمبتدعة جزاه الله
[ 172 ]
خيرا وقد قال في رده المجمل على الغناء الصوفي ما مختصره ( ص 106 - 108 ) :
إن هذا السماع على هذا الوجه حرام قبيح لا يبيحه أحد من المسلمين ولا يستحسنه إلا من خلع جلباب الحياء والدين عن وجهه وجاهر الله ورسوله ودينه وعباده بالقبيح وسماع مشتمل على مثل هذه الأمور قبحه مستقر في فطر الناس حتى إن الكفار ليعيرون به المسلمين ودينهم
نعم خواص المسلمين ودين الإسلام براء من هذا السماع الذي كم حصل به من مفسدة في العقل والدين والحريم والصبيان فكم أفسد من دين وأمات من سنة وأحيا من فجور وبدعة
ولو لم يكن فيه من المفاسد إلا ثقل استماع القرآن على قلوب أهله واستطالته إذا قرئ بين يدي سماعهم ومرورهم على آياته صما وعميا لم يحصل لهم من ذوق ولا وجد ولا حلاوة بل ولا يصغي أكثر الحاضرين أو كثير منهم إليه ولا يقومون معانيه ولا يغضون أصواتهم عند تلاوته
تلي الكتاب فأطرقوا لا خفية لكنه إطراق ساه لاهي
وإلى الغناء فكالذباب تراقصوا والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن فمتى رأيت عبادة بملاهي
[ 173 ]
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي
والرقص خف عليهم بعد الغنا يا باطلا قد لاق بالأشباه
يا أمة ما خان دين محمد وجنى عليه ومله إلا هي
وبالجملة فمفاسد هذا السماع في القلوب والنفوس والأديان أكثر من أن يحيط به العد
ومنهم المفسر المحقق الآلوسي فقال بعد أن أطال النفس جدا في تفسير آية ( لهو الحديث ) والآثار وأقوال المفسرين فيها وفي دلالتها على تحريم الغناء ومذهب الفقهاء فيه ( 11 / 72 - 73 ) :
وأنا أقول : قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع ولا يتحاشى من ذلك في المساجد وغيرها بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والحانات وسائر ما يعد من المحظورات ومع ذلك قد وظف لهم من غلة الوقف ما وظف ويسمونهم ( الممجدين ) ويعدون خلو الجوامع من ذلك من قلة الاكتراث بالدين وأشنع من ذلك ما يفعله أبالسة المتصوفة ومردتهم ثم أنهم - قبحهم الله تعالى - إذا اعترض عليهم بما اشتمل عليه نشيدهم من الباطل يقولون : نعني
[ 174 ]
ب ( الخمر ) المحبة الإلهية أوب ( السكر ) : غلبتها أوب ( مية ) و ( ليلى ) و ( سعدى ) مثلا : المحبوب الأعظم وهو الله عز وجل وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه ( ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه )
ثم نقل عن بعض الأجلة ( ص 75 ) أنه قال :
ومن السماع المحرم سماع متصوفة زماننا وإن خلا عن رقص فإن مفاسده أكثر من أن تحصى وكثير مما ينشدون من الأشعار من أشنع ما يتلى ومع هذا يعتقدونه قربة ويزعمون أن أكثرهم رغبة فيه أشدهم رغبة أو رهبة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون
وكان قبل ذلك نقل ( ص 73 ) عن العز بن عبد السلام الإنكار الشديد لسماعهم ورقصهم وتصفيقهم ثم تحدث عن وجدهم وأقوال العلماء فيه وهل يؤاخذون عليه ؟ وأنكره هو عليهم لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى التعرض لما يسمونه ب ( التمجيد ) على المنائر وأنكره
ثم ذكر الأحاديث في تحريم المعازف ومنها حديث البخاري ثم ذكر حكم القعود في مجلس فيه شيء منها وأقوال العلماء في ذلك . . ثم قال ( ص 79 ) :
ثم إنك إذا ابتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو استماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له من المتصوفة فلو كان الأمر كما زعموا لما أهمل الأنبياء أن يفعلوه ويأمروا أتباعهم به ولم ينقل ذلك عن أحد من
[ 175 ]
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أشار إليه كتاب من الكتب المنزلة من السماء وقد قال الله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ولو كان استعمال الملاهي المطربات أو استماعها من الدين ومما يقرب إلى حضرة رب العالمين لبينه صلى الله عليه وسلم وأوضحه كمال الإيضاح لأمته وقد قال عليه الصلاة والسلام :
والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه "
وبعد فهذا ما تيسر لي ذكره من أقوال العلماء المشهورين في إنكار الغناء الصوفي وبيان أنه بدعة ضلالة بعد أن أثبتنا حرمة الغناء بالكتاب والسنة وتقدمت أقوال أخرى لآخرين في بعض الفصول المتقدمة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية
ولا بد لي بهذه المناسبة أن أقص على القراء ما وقع لي مع بعض الطلبة المقلدين من المناقشة حول هذا الغناء اللعين وذلك منذ نصف قرن من الزمان وأنا في دكاني في دمشق أصلح الساعات جاءني زبون من الطلبة وعليه العمامة الأغبانية المزركشة المعروفة في سوريا فلفت نظري ظرف كبير يتأبطه ظننت أن فيه بعض إسطوانات صندوق سمع ( فونوغراف ) المعروفة في ذلك الزمان فلما سألته أجاب بما ظننت فقلت له مستنكرا : أأنت مغني ؟ قال : لا ولكني أسمع الغناء قلت : أما تعلم أنه حرام باتفاق الأئمة الأربعة ؟
[ 176 ]
قال : لكني أفعل بنية حسنة قلت : كيف ذلك ؟ قال : إني أجلس أسبح الله وأذكره والسبحة بيدي وأستمع لغناء أم كلثوم فأتذكر بصوتها العذب صوت الحور العين في الجنة فأنكرت ذلك عليه أشد الإنكار ولا أذكر الآن ما قلت له بعدها ولكنه لما رجع بعد أسبوع ليأخذ ساعته بعد تصليحها جاء معه طالب أقوى منه معروف من جمعية رابطة العلماء فتكلم في الموضوع مؤيدا لصاحبه معتذرا عنه بحسن نيته فأجبته بأن حسن النية لا يجعل المحرم حلالا فضلا عن أن يجعله قربة إلى الله أرأيت لو أن مسلما استحل شرب الخمر بدعوى تذكر خمر الجنة ؟ وهكذا يقال في الزنا أيضا فاتق الله ولا تفتح على الناس باب استحلال حرمات الله بل والتقرب إلى الله بأدنى الحيل فانقطع الرجل
فهذا مثال من تأثير الغناء الصوفي
وما لي أذهب بالقراء بعيدا فهذا الشيخ الغزالي الذي اشتهر بأنه من الدعاة الإسلاميين وأعطي من أجل ذلك جائزة ( إسلامية ) عالمية كبرى يستبيح الغناء المذكور ولو من أم كلثوم وفيروز وحينما أنكر عليه أحد الطلبة استماعه لأغنية أم كلثوم فيما أظن :
أين ما يدعى ظلاما يا رفيق الليل أينا ؟
أجاب بقوله : " إنني أعني شيئا آخر " ( ص 75 / السنة ) يعني أن نيته حسنة
وكان قبل ذلك ( ص 70 ) وضع حديث " إنما الأعمال بالنيات " في غير
[ 177 ]
موضعه وذلك من الأدلة الكثيرة على جهله بفقه السنة لأن معناه : " إنما الأعمال الصالحة بالنيات الصالحة " كما يدل على ذلك تمام الحديث وهو ظاهر بأدنى تأمل ولكن ( من لم يجعل الله له نورا فما له من نور )
وختاما أقول : لو لم يكن من شؤم الغناء الصوفي إلا قول أحدهم :
سماع الغناء أنفع للمريد من سماع القرآن من ستة أوجه أو سبعة
لكفى
ولما قرأت هذا في " مسألة السماع " لابن القيم ( 1 / 161 ) لم أكد أصدق أن هذا يقوله مسلم حتى رأيته في كلام الغزالي في " الإحياء " ( 2 / 298 ) وبعبارة مطلقة غير مقيدة ب ( المريد ) مع الأسف الشديد وأكده بأن أورده على نفسه سؤالا أو اعتراضا خلاصته :
إذا كان كلام الله تعالى أفضل من الغناء لا محالة فما بالهم لا يجتمعون على قارئ القرآن ؟ فأجاب بقوله :
فاعلم أن الغناء أشد تهييجا للوجد من القرآن من سبعة أوجه
ثم سود أكثر من صفحتين كبيرتين في بيانها فيتعجب الباحث كيف يصدر ذلك من فقيه من كبار فقهاء الشافعية بل قال فيه من نجله : " حجة الإسلام " ومع ذلك فكلامه فيها هزيل جدا ليس فيه علم ولا فقه يتبين ذلك من قوله :
[ 178 ]
" الوجه السادس : أن المغني قد يغني ببيت لا يوافق حال السامع فيكرهه وينهاه عنه ويستدعي غيره فليس كل كلام موافقا لكل حال فلو اجتمعوا في الدعوات على القارئ فربما يقرأ آية لا يوافق حالهم إذ القرآن شفاء للناس كلهم على اختلاف الأحوال . . . فإذن لا يؤمن أن لا يوافق المقروء الحال وتكرهه النفس فيتعرض به لخطر كراهة كلام الله تعالى من حيث لا يجد سبيلا إلى دفعه . . وأما قول الشاعر فيجوز تنزيله على غير مراد . . فيجب توقير كلام الله وصيانته عن ذلك وهذا ما ينقدح في علل انصراف الشيوخ إلى سماع الغناء عن سماع القرآن "
فأقول : الله أكبر ( لقد بلغ السيل الزبى ) فقد تضخمت المصيبة لقد كانت محصورة في ( المريدين ) في نقل ابن القيم المتقدم وإذا بالغزالي يصرح بأنها في ( الشيوخ ) أيضا وعنهم يدافع بذلك التعليل البارد الذي تغني حكايته عن رده والله المستعان
وإذا كان الغزالي هذا يصرح بأن القرآن شفاء للناس كلهم على اختلاف الأحوال فما لنا وللوجد الذي من أجله سوغ الصوفية الإعراض عن سماع القرآن الوجد الذي أحسن أحواله أن يكون صاحبه مغلوبا عليه كالعطاس مثلا وأسوؤه أن يكون رياء ونفاقا وأين هم من قوله تعالى في ( القرآن ) : ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ) ؟
ورحم الله ابن القيم وجزاه خيرا فقد عرف أضرار هذا السماع
[ 179 ]
الشيطاني وجلى مخالفته للسماع القرآني من وجوه كثيرة في فصول علمية عديدة وبحوث فقهية مفيدة وبين ضلال المتمسكين به ضلالا بعيدا في كتابه السابق " مسألة السماع " ونحوه في " إغاثة اللهفان " وأنشأ فيهم قصائد من الشعر وصفهم فيها وصفا دقيقا صادقا منها قصيدة في ثلاثين ومائة بيت في " الإغاثة " جاء فيها ( 1 / 232 ) :
تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا بظواهر الجهال والضلال
جعلوا المرا فتحا وألفاظ الخنا شطحا وصالوا صولة الإدلال
نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم نبذ المسافر فضلة الأكال
جعلوا السماع مطية لهواهم وغلوا فقالوا فيه كل محال
هو طاعة هو قربة هو سنة صدقوا لذاك الشيخ ذي الإضلال
شيخ قديم صادهم بتحيل حتى أجابوا دعوة المحتال
هجروا له القرآن والأخبار وال آثار إذ شهدت لهم بضلال
ورأوا سماع الشعر أنفع للفتى من أوجه سبع لهم بنوال
تالله ما ظفر العدو بمثلها من مثلهم واخيبة الآمال
[ 180 ]
كلمة في الأناشيد الإسلامية :
هذا وقد بقي عندي كلمة أخيرة أختم بها هذه الرسالة النافعة إن شاء الله تعالى وهي حول ما يسمونه ب ( الأناشيد الإسلامية أو الدينية ) فأقول :
قد تبين من الفصل السابع ما يجوز التغني به من الشعر وما لا يجوز كما تبين مما قبله تحريم آلات الطرب كلها إلا الدف في العيد والعرس للنساء ومن هذا الفصل الأخير أنه لا يجوز التقرب إلى الله إلا بما شرع الله فكيف يجوز التقرب إليه بما حرم ؟ وأنه من أجل ذلك حرم العلماء الغناء الصوفي واشتد إنكارهم على مستحليه فإذا استحضر القارئ في باله هذه الأصول القوية تبين له بكل وضوح أنه لا فرق من حيث الحكم بين الغناء الصوفي والأناشيد الدينية
بل قد يكون في هذه آفة أخرى وهي أنها قد تلحن على ألحان الأغاني الماجنة وتوقع على القوانين الموسيقية الشرقية أو الغربية التي تطرب السامعين وترقصهم وتخرجهم عن طورهم فيكون المقصود هو اللحن والطرب وليس النشيد بالذات وهذه مخالفة جديدة وهي التشبه بالكفار والمجان
وقد ينتج من وراء ذلك مخالفة أخرى وهي التشبه بهم في إعراضهم عن القرآن وهجرهم إياه فيدخلون في عموم شكوى النبي صلى الله عليه وسلم من قومه كما في قوله تعالى : ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا )
وإني لأذكر جيدا أنني لما كنت في دمشق - قبل هجرتي إلى هنا ( عمان ) بسنتين - أن بعض الشباب المسلم بدأ يتغنى ببعض الأناشيد السليمة المعنى قاصدا بذلك معارضة غناء الصوفية بمثل قصائد البوصيري وغيره وسجل ذلك في شريط فلم يلبث إلا قليلا حتى قرن معه الضرب على الدف ثم استعملوه في أول الأمر في حفلات الأعراس على أساس أن ( الدف ) جائز فيها ثم
[ 181 ]
شاع الشريط واستنسخت منه نسخ وانتشر استعماله في كثير من البيوت وأخذوا يستمعون إليه ليلا نهارا بمناسبة وبغير مناسبة وصار ذلك سلواهم وهجيراهم وما ذلك إلا من غلبة الهوى والجهل بمكائد الشيطان فصرفهم عن الاهتمام بالقرآن وسماعه فضلا عن دراسته وصار عندهم مهجورا كما جاء في الآية الكريمة قل الحافظ ابن كثير في
تفسيرها " ( 3 / 317 ) :
يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) وذلك أن المشركين كانوا لا يسمعون القرآن ولا يستمعونه كما قال تعالى : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) الآية فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه فهذا من هجرانه وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه وترك تدبره وتفهمه من هجرانه وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء أن يخلصنا مما يسخطه ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه إنه كريم وهاب
وهذا آخر ما يسر الله تبارك وتعالى تبييضه من هذه الرسالة نفع الله بها عباده وذلك أصيل يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة ( 1415 ه )
و " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك "
عمان 28 / 6 / 1415 ه
محمد ناصر الدين الألباني
[ 182 ] |