في الغناء بدون آلة
قد يقول قائل :
ها نحن أولاء قد عرفنا حكم الغناء بآلات الطرب وأنه حرام إلا الدف في العرس والعيد فما حكم الغناء بدون آلة ؟
وجوابا عليه أقول : لا يصح إطلاق القول بتحريمه لأنه لا دليل على هذا الإطلاق كما لا يصح إطلاق القول بإباحته كما يفعل بعض الصوفيين وغيرهم من أهل الأهواء قديما وحديثا لأن الغناء يكون عادة بالشعر وليس هو بالمحرم إطلاقا كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
( صحيح ) " إن من الشعر حكمة " . رواه البخاري وهو مخرج في " الصحيحة " ( 2851 ) بل إنه كان يتمثل بشيء منه أحيانا كمثل شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه :
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وهو مخرج في " الصحيحة " ( 2057 ) وانظر التعليق عليه في كتابي الجديد : " صحيح أدب المفرد " ( ص 322 ) ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الشعر :
( صحيح ) " هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح "
وهو مخرج في " الصحيحة " أيضا ( 447 ) وكذلك قالت السيدة
[ 126 ]
عائشة رضي الله عنها :
( صحيح ) " خذ بالحسن ودع القبيح ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا ودون ذلك " . " الصحيحة " أيضا
والأحاديث في استماعه للشعر كثيرة وسيأتي بعضها إن شاء الله تعالى وقالت عائشة رضي الله عنها :
( صحيح ) " لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى قال :
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه تغنى فقال :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم اخز عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من مكة
أخرجه أحمد ( 6 / 82 - 83 ) بسند صحيح وهو في " الصحيحين " وغيرهما دون قوله : " يتغنى " وهو مخرج في " الصحيحة " ( 2584 )
( صحيح ) وعن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء وهو مستلق واضعا إحدى رجليه على الأخرى يتغنى فنهاه فقال : أترهب أن أموت على فراشي وقد تفردت بقتل مئة من الكفار سوى من شركني فيه الناس ؟
[ 127 ]
أخرجه الحاكم ( 3 / 291 ) وعبد الرزاق ( 11 / 6 / 19742 ) ومن طريقه الطبراني في " المعجم الكبير " ( 2 / 12 / 1178 ) وعنه أبو نعيم في " الحلية " ( 1 / 350 ) وقال الحاكم : " صحيح على شرط الشيخين " ووافقه الذهبي وهو كما قالا وطريقه غير طريق عبد الرزاق
( صحيح ) وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال :
رأيت أسامة بن زيد رضي الله عنه جالسا في المجلس رافعا إحدى رجليه على الأخرى رافعا عقيرته قال : حسبته يتغنى النصب
أخرجه عبد الرزاق ( 19739 ) ومن طريقه البيهقي ( 1 / 224 ) وإسناده صحيح على شرط الشيخين
( صحيح ) وعن وهب بن كيسان قال : قال عبد الله بن الزبير - وكان متكئا - : " تغنى بلال "
قال : فقال له رجل : " تغنى ؟ " فاستوى جالسا ثم قال :
وأي رجل من المهاجرين لم أسمعه يتغنى النصب ؟
رواه عبد الرزاق ( 19741 ) مختصرا والبيهقي ( 10 / 230 ) والسياق له وإسناده صحيح على شرط الشيخين
وقال السائب بن يزيد :
[ 128 ]
بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق الحج ونحن نؤم مكة اعتزل عبد الرحمن رضي الله عنه الطريق ثم قال لرباح بن المغترف : غننا يا أبا حسان وكان يحسن النصب فبينا رباح يغنيه أدركهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فقال : ما هذا ؟ فقال عبد الرحمن : ما بأس بهذا نلهو ونقصر عنا فقال عمر رضي الله عنه : فإن كنت آخذا فعليك بشعر ضرار بن الخطاب وضرار رجل من بني محارب بن فهر
أخرجه البيهقي ( 10 / 224 ) بإسناد جيد وقال :
و ( النصب ) ضرب من أغاني الأعراب وهو يشبه الحداء . قاله أبو عبيد الهروي
وفي " القاموس " : " نصب العرب : ضرب من مغانيها أرق من الحداء "
فأقول : وفي هذه الأحاديث والآثار دلالة ظاهرة على جواز الغناء بدون آلة في بعض المناسبات كالتذكير بالموت أو الشوق إلى الأهل والوطن أو للترويح عن النفس والالتهاء عن وعثاء السفر ومشاقه ونحو ذلك مما لا يتخذ مهنة ولا يخرج به عن حد الاعتدال فلا يقترن به الاضطراب والتثني والضرب بالرجل مما يخل بالمروءة كما في حديث أم علقمة مولاة عائشة :
أن بنات أخي عائشة رضي الله عنها خفضن فألمن ذلك فقيل لعائشة : يا أم المؤمنين ألا ندعو لهن من يلهيهن ؟ قالت : بلى قالت : فأرسلت
[ 129 ]
إلى فلان المغني فأتاهم فمرت بهم عائشة رضي الله عنها في البيت فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربا وكان ذا شعر كثير فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها :
أف شيطان أخرجوه أخرجوه
فأخرجوه
أخرجه البيهقي ( 10 / 223 - 224 ) والبخاري مختصرا في " الأدب المفرد " ( 1247 ) بسند حسن أو يحتمل التحسين وقد أوردته في " صحيح الأدب المفرد " رقم ( 945 ) محسنا وصححه الحافظ ابن رجب في " نزهة الأسماع " ( ص 55 - طيبة )
وقد ترجم البيهقي لهذه الأحاديث والآثار بقوله :
باب الرجل لا ينسب نفسه إلى الغناء ولا يؤتى لذلك ولا يأتي عليه وإنما يعرف بأنه يطرب في الحال فيترنم فيها
وللشيخ أبي الفرج ابن الجوزي كلام جيد في هذه المسألة ساقه في كتابه " تلبيس إبليس " في أكثر من فصل واحد فمن تمام الفائدة أن ألخصه للقراء قال ( ص 237 - 241 ) :
وقد تكلم الناس في الغناء فأطالوا فمنهم من حرمه ومنهم من أباحه من غير كراهة ومنهم من كرهه مع الإباحة
وفصل الخطاب أن نقول :
ينبغي أن ينظر في ماهية الشيء ثم يطلق عليه التحريم أو الكراهة أو غير
[ 130 ]
ذلك والغناء يطلق على أشياء :
منها : غناء الحجيج في الطرقات فإن أقواما من الأعاجم يقدمون للحج فينشدون في الطرقات أشعارا يصفون فيها الكعبة وزمزم والمقام . . فسماع تلك الأشعار مباح وليس إنشادهم إياها مما يطرب ويخرج عن الاعتدال
وفي معنى هؤلاء : الغزاة فإنهم ينشدون أشعارا يحرضون بها على الغزو
وفي معنى هذا إنشاد المبارزين للقتال للأشعار تفاخرا عند النزال
وفي معناه أشعار الحداة في طريق مكة كقول قائلهم :
بشرها دليلها وقالا غدا ترين الطلح والجبالا
وهذا يحرك الإبل والآدمي إلا أن ذلك التحريك لا يوجب الطرب المخرج عن حد الاعتدال
( صحيح ) وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاد يقال له : ( أنجشة ) فتعنق الإبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا أنجشة رويدك سوقا بالقوارير "
( صحيح ) وفي حديث سلمة بن الأكوع قال :
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم
[ 131 ]
لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنياتك ؟ وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينة علينا وثبت الأقدام إذ لاقينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من هذا السائق ؟
قالوا : عامر بن الأكوع فقال : " يرحمه الله "
وقد روينا عن الشافعي رحمه الله أنه قال : أما استماع الحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به " . انتهى ملخصا
وقال الإمام الشاطبي في " الاعتصام " ( 1 / 368 ) بعد أن أشار إلى حديث أنجشة وهو في صدد الرد على بعض الصوفيين :
وهذا حسن لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم بل كانوا ينشدون الشعر مطلقا ومن غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم بل كانوا يرفقون الصوت ويمططونه على وجه يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى فلم يكن فيه إلذاذ ولا إطراب يلهي وإنما كان لهم شيء من النشاط كما كان
[ 132 ]
عبد الله بن رواحة يحدو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق :
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما حيينا أبدا
فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بقوله :
اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
ثم ذكر ابن الجوزي من رواية الخلال - وهذا في " الأمر بالمعروف " ( ص 34 ) - بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت :
( حسن ) كان عندنا جارية يتيمة من الأنصار فزوجناها رجلا من الأنصار فكنت فيمن أهداها إلى زوجها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا عائشة إن الأنصار أناس فيهم غزل فما قلت ؟ قالت : دعونا بالبركة قال : أفلا قلتم :
أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحم رما حلت بواديكم
ولولا الحبة السمرا ء لم تسمن عذاراكم
ومن ذلك أشعار ينشدها المتزهدون بتطريب وتلحين تزعج القلوب إلى ذكر الآخرة ويسمونها ( الزهديات ) كقول بعضهم :
يا غاديا في الغفلة ورائحا إلى متى تستحسن القبائح
[ 133 ]
وكم إلى كم لا تخاف موقفا يستنطق الله به الجوارح
يا عجبا منك وأنت مبصر كيف تجنبت الطريق الواضحا
فهذا مباح أيضا وإلى مثله أشار أحمد في الإباحة
ثم روى ابن الجوزي ( ص 240 ) بسنده عن أبي حامد الخلقاني أنه قال :
قلت لأحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار أي شيء تقول فيها ؟ فقال : مثل أي شيء ؟ قلت : يقولون :
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني ؟
فقال : أعد علي فأعدت عليه فقام ودخل بيته ورد الباب فسمعت نحيبه من داخل البيت وهو يقول : ( فذكر البيتين )
فأما الأشعار التي ينشدها المغنون المتهيئون للغناء يصفون فيها المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ويخرجها عن الاعتدال ويثير كامنها من حب اللهو وهو الغناء المعروف في هذا الزمان مثل قول الشاعر :
[ 134 ]
ذهبي اللون تحسب من وجنته النار تقتدح
خوفوني من فضيحته ليته وافى وأفتضح
وقد أخرجوا لهذه الأغاني ألحانا مختلفة كلها تخرج سامعها عن حيز الاعتدال وتثير حب اللهو ولهم شيء يسمونه ( البسيط ) يزعج القلوب عن مهل ثم يأتون بالنشيد بعده فيعجعج القلوب وقد أضافوا إلى ذلك ضرب القضيب والإيقاع به على وفق الإنشاد والدف بالجلاجل والشبابة النائبة عن الزمر
ثم روى ابن الجوزي ( 244 ) تحريم الغناء عن مالك وتقدم نصه في ذلك ( ص 99 ) وعن أبي حنيفة أيضا وقال ( ص 245 ) :
قال الطبري : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهية الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري وقد قال صلى الله عليه وسلم :
( صحيح ) من فارق الجماعة مات ميتة الجاهلية
قال ابن الجوزي : وقد كان رؤساء أصحاب الشافعي رضي الله عنهم ينكرون السماع وأما قدماؤهم فلا يعرف بينهم خلاف وأما أكابر المتأخرين فعلى الإنكار منهم أبو الطيب الطبري وله في ذم الغناء والمنع منه كتاب مصنف
[ 135 ]
ثم قال ابن الجوزي ( ص 245 ) :
فهذا قول علماء الشافعية وأهل التدين منهم وإنما رخص في ذلك من متأخريهم من قل علمه وغلبه هواه وقال الفقهاء من أصحابنا [ الحنابلة ] :
لا تقبل شهادة المغني والرقاص والله الموفق "
[ 136 ] |