قصص الانبياء - ابن كثير - شعيب عليه السلام
 
شعيب عليه السلام

مدين قصة قوم شعيب عليه السلام قال الله تعالى في سورة الاعراف بعد قصة قوم لوط: " وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا
في الارض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا، واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين * وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا، فاصبروا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين * قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا، قال: أولو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شئ علما، على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين * وقال الملا الذين كفروا من قومه: لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين *.

فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف آمى على قوم كافرين " (1).
وقال في سورة هود بعد قصة قوم لوط أيضا: " وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان إنى أراكم بخير، وإنى أخاد عليكم عذاب يوم محيط * ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين * بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ *
قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ؟ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ إنك لانت الحليم الرشيد * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقني منه رزقا حسنا، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنها كم عنه، إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب * ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح، وما قوم لوط منك ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبو إليه إن ربى رحيم ودود * قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفا، ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز * قال يا قوم أرهطى أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ؟ إن ربى بما تعلمون محيط * ويا قوم
__________
(1) الآيات: 85 - 93 (18 - قصص الانبياء 1) (*)

اعملوا على مكانتكم إنى عامل، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب، وارتقبوا إنى معكم رقيب * ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا، وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود " (1).
وقال في الحجر بعد قصة قوم لوط أيضا: وإن كان أصحاب لايكة لظالمين * فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين " (2).
وقال تعالى في الشعراء بعد قصتهم: " كذب أصحاب الايكة
المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين * واتقوا الذى خلقكم والجبلة الاولين * قالوا إنما أنت من المسحرين * وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين * قال ربى أعلم بما تعملون، فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم " (3).
* * * كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم " مدين " التى هي قريبة (4) من أرض معان من أطراف الشام، مما يلي ناحية الحجاز قريبا
__________
(1) الآيات: 84 - 95 (2) الآيتان: 78 - 79 (3) الآيات: 176 - 191 (4) ط: قرية.
محرفة.
(*)

من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم بمدة قريبة.
ومدين قبيلة عرفت بهم (1) وهم من بنى مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل.
وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل (2) بن يشجن، ذكره ابن إسحق.
قال: ويقال له بالسريانية يترون، وفى هذا نظر.
ويقال شعيب ابن يشخر بن لاوى بن يعقوب ويقال شعيب بن نويب بن عيفا (3) ابن مدين بن إبراهيم، ويقال شعيب بن صيفور بن عيفا بن ثابت ابن مدين بن إبراهيم، وقيل غير ذلك في نسبه.
قال ابن عساكر: ويقال جدته، ويقال أمه، بنت لوط.
وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه ودخل معه دمشق.
وعن وهب ابن منبه أنه قال: شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار، وهاجرا معه إلى الشام، فزوجهما بنتى لوط عليه السلام.
ذكره ابن قتيبة.
وفى هذا كله نظر.
والله تعالى أعلم.
وذكر أبو عمر ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة سلمة بن سعد (4) العنزي: أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وانتسب إلى عنزة، فقال: " نعم الحى عنزة ; مبغى (5) عليهم منصورون رهط (6) شعيب وأختان (7) موسى ".
__________
(1) ط: مدينة عرفت بها القبيلة.
(2) ط: مكيل.
(3) ا: غبها.
(4) ا: سعيد.
(5) ا: يبغى.
(6) ط: قوم شعيب (7) الاختان.
جمع ختن وهو الصهر.
وفى المطبوعة.
وأحبار.
محرفة.
(*)

فلو صح هذا لدل على أن شعيبا صهر (1) موسى وأنه من قبيلة من العرب العاربة يقال لهم عنزة، لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، فإن هؤلاء بعده بدهر طويل.
والله أعلم.
وفى حديث أبى ذر الذى في صحيح ابن حبان في ذكر الانبياء والرسل قال: " أربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر " وكان بعض السلف يسمى شعيبا خطيب الانبياء.
يعنى لفصاحته وعلزو عبارته، وبلاغته في دعاية قومه إلى الايمان برسالته.
وقد روى ابن إسحاق بن بشر عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك،
عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبا قال: " ذاك خطيب الانبياء ".
وكان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل ويخيفون المارة، ويعبدون الايكة، وهى شجرة من الايك حولها غيضة ملتفة بها.
وكانوا من أسوإ الناس معاملة ; يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقس.
فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطى هذه الافاعيل القبيحة من بخس الناس أشياءهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم، فآمن به بعضهم وكفر اكثرهم، حتى أحل الله بهم البأس الشديد.
وهو الولى الحميد.
__________
(1) ط: من موسى.
ومحرفة (*)

كما قال تعالى: " وإلى مدين أخاهم شعيبا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم " أي دلالة وحجة واضحة، وبرهان قاطع عن صدق ما جئتكم به وأنه أرسلني، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التى لم ينقل إلينا تفصيلها (1)، وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالا.
" فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها ".
أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم، وتوعدهم على خلاف ذلك فقال: " ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط " [ أي طريق (2) ] " توعدون " أي تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس
وغير ذلك وتخيفون السبل.
قال السدى في تفسيره عن الصحابة: " ولا تقعدوا بكل صراط توعدون " أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة.
وقال إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق، يبخسون الناس، يعنى يعشرونهم.
وكانوا أول من سن ذلك.
" وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا " نهاهم (3) عن قطع الطريق الحسية الدنيوية، والمعنوية الدينية.
__________
(1) ط: لم تنقل إلينا تفصيلا.
(2) ليست في ا (3) ا: فنهاهم.
(*)

" واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة، وحذرهم نقمة الله بهم إن (1) خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه.
كما قال لهم في القصة الاخرى: " ولا تنقصوا المكيال والميزان إنى أراكم بخير، وإنى أخاف عليكم عذاب يوم محيط " أي لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه (2) فيمحق الله [ بركة ] (3) ما في أيديكم (4)، ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم.
وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة، ومن جمع له هذا وهذا، فقد باء بالصفقة الخاسرة ! * * * فنهاهم أولا عن تعاطى مالا يليق من التطفيف، وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الاليم في أخراهم، وعنفهم أشد تعنيف ثم قال لهم آمرا بعد ما كان عن شده زاجرا: " ويا قوم أوفوا المكيال
والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين * بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ ".
قال ابن عباس والحسن البصري: " بقية الله خير لكم " أي رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس.
وقال ابن جرير: ما يفضل (5) لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان، خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف.
قال: وقد روى هذا عن ابن عباس.
__________
(1) ا: وإن.
(2) ا: به.
(3) ليست في ا (4) ا: ما بأيديكم.
(5) ط: ما فضل.
(*)

وهذا الذى قاله وحكاه حسن، وهو شبيه بقوله تعالى: " قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " يعنى أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام، فإن الحلال مبارك وإن قل، والحرام ممحوق وإن كثر.
كما قال تعالى: " يمحق الله الربا ويربى الصدقات " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الربا وإن كثر فإن مصيره إلى قل ".
رواه أحمد.
أي إلى قلة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما " والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل، والحرام لا يجدي وإن كثر.
ولهذا قال نبى الله شعيب: " بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ".
وقوله: " وما أنا عليكم بحفيظ " أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه
الله ورجاء ثوابه، لا لاراكم أنا وغيري.
" قالوا يا شعيب أصواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، إنك لانت الحليم الرشيد ".
يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم: أصلاتك هذه التى تصليها، هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك ؟ ونترك (1) ما يعبد آباؤنا الاقدمون
__________
(1) ا: ونذر.
(*)

وأسلافنا الاولون ؟ أو أن (1) لا نتعامل إلا على الوجه الذى ترتضيه أنت، ونترك المعاملات التى تأباها وإن كنا نحن نرضاها ؟ " أنك لانت الحليم الرشيد " قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وزيد بن أسلم وابن جرير: يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء.
" قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقني منه رزقا حسنا، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنها كم عنه، إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ".
هذا تلطف (2) معهم في العبارة، ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة.
يقول لهم: " أرأيتم أيها المكذبون " إن كنت على بينة من ربى " أي على أمر بين من الله تعالى أنه أرسلني إليكم، " ورزقني منه رزقا حسنا " يعنى النبوة والرسالة، يعنى وعمى عليكم معرفتها، فأى حيلة لى فيكم (3) ؟ وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء.
وقوله: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنها كم عنه " أي لست (4) آمركم بالامر إلا وأنا أول فاعل له، وإذا نهيتكم عن الشئ فأنا أول
من يتركه.
وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة، وضدها هي المردودة الذميمة، كما تلبس بها علماء بنى إسرائيل في آخر زمانهم، وخطباؤهم الجاهلون.
__________
(1) ا: أو أنا.
(2) ا: تلاطف.
(3) ا: بكم.
(4) ا: ليس.
(*)

قال الله تعالى: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ؟ " وذكرنا (1) عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أفتاب بطنه - أي تخرج أمعاؤه من بطنه - فيدور [ بها ] (2) كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار فيقولون: يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول: بلى.
كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه ".
وهذه صفة (3) مخالفى الانبياء من الفجار [ و (2) ] الاشقياء.
فأما السادة من النجباء، والالباء من العلماء، الذين يخشون ربهم بالغيب، فحالهم كما قال نبى الله شعيب: " وما أريد أن اخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت " أي ما أريد في جميع أمرى إلا الاصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي.
" وما توفيقي " أي في جميع أحوالى " إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب " أي عليه اتوكل في سائر الامور، وإليه مرجعي ومصيرى في كل أمرى.
وهذا مقام ترغيب.
* * *
ثم انتقل إلى نوع من الترهيب فقال: " ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح، وما قوم لوط منكم ببعيد ".
__________
(1) ط: وذكر عندهما.
(2) ليست في ا.
(3) ا: فهذه.
(*)

أي لا يحملنكم بخالفتى وبغضكم ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم، فيحل الله بكم من العذاب والنكال، نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم، من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين.
وقوله: " وما قوم لوط منكم ببعيد "، قيل معناه: في الزمان، أي ما بالعهد من قدم، مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم.
وقيل معناه: وماهم منكم ببعيد في المحلة والمكان.
وقيل في الصفات والافعال المستقبحات، من قطع الطريق، وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات.
والجمع بين هذه الاقوال ممكن: فإنهم لم يكونوا (1) بعيدين منهم لا زمانا ولا مكانا ولا صفات.
ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال: " واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود " أي أقلعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود، فإنه من تاب إليه تاب عليه، فإنه رحيم بعباده، أرحم بهم من الوالدة بولدها، " ودود " وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده، ولو من الموبقات العظام.
" قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا "
روى عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنهم قالوا: كان ضرير البصر.
وقد روى في حديث مرفوع: انه بكى من حب الله حتى
__________
(1) ا.
فإنهم غير بعيدين.
(*)

عمى، فرد الله عليه بصره، وقال: " يا شعيب أتبكى خوفا (1) من النار ؟ أو [ من ] (2) شوقك إلى الجنة ؟ فقال: بل من محبتك (3)، فإذا نظرت إليك فلا أبالى ماذا يصنع بى.
فأوحى [ الله ] (2) إليه: هنيئا لك يا شعيب لقائي، فلذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمى ".
رواه الواحدى عن أبى الفتح محمد بن على الكوفى، عن على بن الحسن بن بندار، عن عبد الله محمد بن إسحق الرملي عن هشام بن عمار، عن إسمعيل بن عباس، عن يحيى بن سعيد، عن شداد بن أوس (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وهو غريب جدا، وقد ضعفه الخطيب البغدادي.
* * * وقولهم: " ولو لا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز " هذا من كفرهم البليغ، وعنادهم الشنيع، حيث قالوا: " ما نفقه كثيرا مما تقول " أي ما نفهمه ولا نعقله، لانه لا نحبه ولا نريده، وليس لنا همة إليه، ولا إقبال عليه.
وهو كما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، فاعمل إننا عاملون ".
__________
(1) ا: من خوفك من النار.
(2) ليست في ا.
(3) ا.
فقال لمحبتك.
(4) المطبوعة: بن أمين.
وهو تحريف.
(*)

وقولهم: " وإنا لنراك فينا ضعيفا " أي مضطهدا مهجورا.
" ولولا رهطك " أي قبيلتك وعغشيرتك فينا " لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ".
" قال يا قوم أرهطى أعز عليكم من الله " [ أي تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعونى بسببهم، ولا تخافون عذاب (1) الله ؟ ولا تراعوني لانى رسول الله ؟ فصار رهطي أعز عليكم من الله (2) ] " واتخذتموه وراءكم ظهريا [ أي جانب الله وراء ظهوركم (2) ] " إن ربى بما تعملون محيط " أي هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه، محيط بذلك كله، وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه.
" ويا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعملون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إنى معكم رقيب ".
هذا أمر تهديد شدى ووعيد أكيد، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار، ومن يحل عليه الهلاك والبوار " من يأتيه عذاب يخزيه " أي في هذه الحياة الدنيا " ويحل عليه عذاب مقيم " أي في الآخرى (2) " ومن هو كاذب " أي منى ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر.
" وارتقبوا إنى معكم رقيب " هذا كقوله: " وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا، فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ".
* * *
__________
(1) سقط من ا.
(2) ا: في الآخرة.
(1) الاصل: جنة الله.
(*)

" قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين ؟ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شئ علما، على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ".
طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم، فانتصب شعيب للمحاجة (1) عن قومه فقال: " أولو كنا كارهين ؟ " [ أي ] (2) هؤلاء لا يعودون إليكم اختيارا، وإنما يعودون إليكم إن عادوا، اضطرارا مكرهين ; وذلك لان الايمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، ولا يرتد أحد عنه، ولا محيد لاحد منه.
ولهذا قال: " قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شئ علما، على الله توكلنا " أي فهو كافينا، وهو العاصم لنا وإليه ملجأنا في جميع أمرنا.
ثم استفتح على قومه، واستنصر ربه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال: " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " أي الحاكمين.
فدعا عليهم، والله لا يرد دعاء رسله إذا انتصروه على الذين جحدوه وكفروه، ورسوله خالفوه.
__________
(1) ط: للحاربة.
(2) ليست في ا.
(*)

ومع هذا صموا على ماهم عليه مشتملون، وبه متلبسون: " وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتهم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ".
قال الله تعالى: " فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين " ذكر في سورة الاعراف أنهم أخذتهم رجفة، أي رجفت بهم أرضهم، وزلزلت زلزالا شديدا أزهقت أرواحهم من أجسادها، وصيرت حيوان أرضهم كجمادها، وأصبحت جثثهم جاثية ; لا أرواح فيها ولا حركات بها، ولا حواس لها.
وقد جمع الله عليهم أنواعا من العقبوبات، وصنوفا من المثلاث، وأشكالا من البليات، وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات، سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عظيمة أخمدت الاصوات، وظلة أرسل عليهم منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.
ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها ويوافق طباقها ; في سياق قصة الاعراف أرجفوا نبى الله وأصحابه، وتوعدوهم بالاخراج من قريتهم، أو ليعودن في ملتهم راجعين.
فقال تعالى: " فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين " [ فقابل الارجاف بالرجفة، والاخافة بالخيفة، وهذا مناسب لهذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق.
وأما في سورة هود: فذكر انهم أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين (1) ] وذلك لانهم قالوا لنبى الله على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص: " أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء
__________
(1) سقط من ا.
(*)

إنك لانت الحليم الرشيد " فناسب أن يذكر الصيحة التى هي كالزجر عن تعاطى هذا الكلام القبيح، الذى واجهوا به هذا الرسول الكريم الامين الفصيح، فجاءتهم صيحة (1) أسكتتهم [ مع رجفة أسكنتهم (2) ].
وأما في سورة الشعراء: فذكر أنه أخذهم عذاب [ يوم (2) ] الظلمة، وكان ذلك إجابة لما طلبوا، تقريبا إلى ما إليه رغبوا، فإنهم قالوا: " إنما أنت من المسحرين * وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين * قال ربى أعلم بما تعملون ".
قال الله تعالى وهو السميع العليم: " فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلمة إنه كان عذاب يوم عظيم ".
ومن زعم من المفسرين [ كقتادة (2) ] وغيره: أن أصحاب الايكة أمة أخرى غير أهل مدين، فقوله ضعيف.
وإنما عمدتهم شيئان: أحدهما أنه قال: " كذب اصحاب الايكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب " ولم يقل أخوهم كما قال: " وإلى مدين أخاهم شعيبا ".
والثانى: أنه ذكر عذابهم بيوم الظلة، وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة.
والجواب عن الاول: أنه لم يذكر الاخوة بعد قوله: " كذب أصحاب
__________
(1) ا: فجاءهم في صيحة.
(2) سقطت من.
(*)

الايكة المرسلين " لانه وصفهم بعبادة الايكة، فلا يناسب ذكر الاخوة هاهنا.
ولما نسبهم إلى القبيلة ساغ (1) ذكر شعيب بأنه أخوهم.
وهذا الفرق من النفائس اللطيفة العزيزة الشريفة.
وأما احتجاجهم بيوم الظلة ; فإن كان دليلا بمجرده على أن هؤلاء أمة أخرى، فليكن تعداد الانتقام بالرجفة والصيحة دليلا على أنهما أمتان أخريان، وهذا لا يقوله أحد يفهم شيئا من هذا الشأن.
[ فأما الحديث الذى أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه السلام، من طريق محمد بن عثمان بن أبى شيبة، عن أبيه، عن معاوية ابن هشام، عن هشام بن سعد، عن شفيق بن أبى هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: " إن قوم مدين وأصحاب الايكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي عليه السلام ".
فإنه حديث غريب.
وفى رجاله من تكلم فيه.
والاشبه أنه من كلام عبد الله بن عمرو، مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بنى اسرائيل.
والله أعلم ].
(2) ثم قد ذكر الله عن أهل الايكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان، فدل على أنهم أمة واحدة، أهلكوا بأنواع من العذاب.
وذكر في كل موضع ما يناسب من الخطاب.
وقوله: " فأخذهم عذاب يوم الظلمة إنه كان عذاب يوم عظيم " ذكروا
__________
(1) المطبوعة: فشاع.
وهو تحريف (2) سقط من ا (*)

أنهم أصابهم حر شديد، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام، فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل، ولا دخولهم في الاسراب، فهربوا من محلتهم إلى البرية، فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليستظطلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الارض،
وجاءتهم صيحة من السماء، فأزهقت الارواح، وخربت الاشباح.
" فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذى كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " ونجى الله شعيبا ومن معه من المؤمنين، كا قال تعالى وهو أصدق القائلين: " ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا، وأخذت الذى ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوزا فيها ألا بعد المدين كما بعدت ثمود " وقال تعالى: " وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " وهذا في مقابلة قولهم: " لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ".
* * * ثم ذكر تعالى عن نبيهم: أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخا ومؤنبا ومقرعا، فقال تعالى: " فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ".
أي أعرض عنهم موليا عن محلتهم بعد هلكتهم قائلا: " يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم ".
أي قد أديت ما كان (19 - قصص الانبياء 1) (*)

واجبا على من البلاغ التام والنصح الكامل، وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه، فلم ينفعكم ذلك، لان الله لا يهدى من يضل ومالهم من ناصرين.
فلست [ أتأسف ] (1) بعد هذا عليكم، لانكم لم تكونوا تقبلون النصيحة، ولا تخافون يوم الفضيحة.
ولهذا قال: " فكيف آسى " [ أي أحزن ] (1) " على قوم كافرين " أي لا يقبلون الحق ولا يرجعون إليه ولا يلتفتون إليه (2) فحل بهم من بأس الله الذى لا يرد ما لا يدفع ولا يمانع، ولا محيد لاحد أريد به عنه، ولا مناص عنه (3).
[ وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس: أن شعيبا عليه السلام كان بعد يوسف عليه السلام.
وعن وهب بن منبه: أن شعيبا عليه السلام مات بمكة ومن معه من المؤمنين، وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بنى سهم ] (4).
__________
(1) سقطت من ا.
(2) ا: عليه.
(3) ط: منه.
(4) ليست في ا (*)

 
 

Document sans titre
 

Warning: main() [function.main]: open_basedir restriction in effect. File(/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php) is not within the allowed path(s): (/mnt/110/sda/d/6/kutub) in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/010.php on line 274

Warning: main(/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php) [function.main]: failed to open stream: Operation not permitted in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/010.php on line 274

Warning: main() [function.include]: Failed opening '/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php' for inclusion (include_path='/mnt/110/sda/d/6/kutub/include:.:/usr/php4/lib/php') in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/010.php on line 274