قصة لوط عليه السلام ومما وقع في حياة إبراهيم الخليل من الامور العظيمة: قصة قوم لوط عليه السلام، وما حل بهم من النقمة العميمة.
وذلك أن لوطا بن هاران بن تارح - وهو آزر كما تقدم - ولوط ابن أخى إبراهيم الخليل فإبراهيم وهاران وناحور إخوة كما قدمنا، ويقال إن هاران هذا هو الذى بنى حران.
وهذا ضعيف لمخالفته ما بأيدى أهل الكتاب والله تعالى أعلم.
وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام بأمره له وإذنه، فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زغر (1)، وكان أم تلك المحلة ولها أرض ومعتملات وقرى مضافة إليها.
ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم وأسوأهم طوية، وأردئهم سريرة وسيرة، يقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر، ولا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.
ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بنى آدم، وهى إتيان الذكران من العالمين، وترك ما خلق الله من النسوان لعباده الصالحين.
فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطى هذه المحرمات والفواحش المنكرات، والافاعيل المستقبحات فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم، واستمرزوا على فجورهم وكفرانهم، فأحل الله بهم
__________
(1) ا: أرض عز عز: محرفة.
(*)
من البأس الذى لايرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم، وجعلهم مثلة في العالمين، وعبرة يتعظ بها الالباء من العالمين.
ولهذا ذكر الله تعالى قصتهم في غير ما موضع في كتابه المبين.
فقال تعالى في سورة الاعراف: " ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (1) ".
وقال تعالى في سورة هود: " ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما، قال سلام، فما لبث أن جاء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة، قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب * قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا إن هذا لشئ عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله ؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد
مجيد * فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود * ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا، وقال هذا يوم عصيب * وجاءه قومه يهرعون
__________
(1) الآيات: 80 - 84.
(*)
إليه، ومن قبل كانوا يعملون السيئات، قال يا قوم هؤلاء بناتى هن أطهر لكم، فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد ؟ * قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد * قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، فأسر بأهلك بقطع من الليل، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ؟ * فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد (1) ".
وقال تعالى في سورة الحجر: " ونبئهم عن ضيف إبراهيم * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم * قال أبشرتموني على أن مسنى الكبر فبم تبشرون ؟ * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون * قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين * فلما جاء آل لوط المرسلون * قال إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون * وأتيناك بالحق وإنا لصادقون *
فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم، ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون * وقضينا إليه ذلك الامر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين * وجاء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هؤلاء ضيفي
__________
(1) الآيات: 69 - 83.
(*)
فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون * قالوا أو لم ننهك عن العالمين * قال هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن في ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم * إن في ذلك لآية للمؤمنين (1) ".
وقال تعالى في سورة الشعراء: " كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بن أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين * قال إنى لعملكم من القالين * رب نجنى وأهلي مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم (2) ".
وقال تعالى في سورة النمل: " ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون * أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من
قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (3) ".
__________
(1) الآيات: 50 - 77 (2) الآيات: 160 - 170 (3) الآيات: 54 - 85.
(17 - قصص الانبياء 1) (*)
وقال تعالى في سورة العنكبوت: " ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل، وتأتون في ناديكم المنكر، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين * قال رب انصرني على القوم المفسدين * ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية، إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيخها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون * ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون " (1).
وقال تعالى في سورة الصافات: " وإن لوطا لمن المرسليمن * إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون (2) ".
وقال تعالى في الذاريات بعد قصة [ ضيف (3) ] إبراهيم وبشارتهم إياه بغلام عليم: " قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى
قوم مجرمين * لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة عند ربك للمسرفين *
__________
(1) الآيات: 28 - 35 (2) الآيات: 133 - 138 (3) سقطت من ا (*)
فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين * وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم " (1).
وقال في سورة القمر (2): " كذبت قوم لوط بالنذر * إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر * نعمة من عندنا كذلك نجزى من شكر * ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر * ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر * ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر * فذوقوا عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " (3).
وقد تكلمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السور في التفسير.
وقد ذكر الله لوطا وقومه في مواضع أخر من القرآن ; تقدم ذكرها مع نوح وعاد وثمود.
* * * والمقصود الآن إيراد ماكان من أمرهم، وما أحل الله بهم، مجموعا من الآيات والآثار.
وبالله المستعان.
وذلك أن لوطا عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطى ما ذكر الله عنهم من الفواحش، لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به [ حتى ] (4) ولا رجل واحد منهم، ولم يتركوا ما عنه نهوا.
بل استمروا على حالهم، ولم يرعووا (5) عن غيهم وضلالهم، وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم.
وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم - إذ كانوا لا يعقلون
__________
(1) الآيات: 31 - 37 (2) ا: سورة الانشقاق (3) الآيات: 33 - 40 (4) ليست في ا.
(5) ط: ولم يرتدعوا.
(*)
إلا أن قالوا: " أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " فجعلوا غاية المدح ذما يقتضى الاخراج ! وما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج.
فطهره الله وأهله إلا امرأته، وأخرجهم منها أحسن إخراج، وتركهم في محلتهم خالدين، لكن بعد ما صيرها عليهم بحرة منتنة ذات أمواج، لكنها عليهم في الحقيقة نار تأجج، وحر يتوهج، وماؤها ملح أجاج.
وما كان هذا جوابهم إلا لما نهاهم عن " [ ارتكاب (1) ] الطامة العظمى، والفاحشة الكبرى، التى لم يسبقهم إليها أحد من [ العالمين (2) ] أهل الدنيا.
ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها.
وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويأتون في ناديهم، وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم، المنكر من الاقوال والافعال على اختلاف أصنافه.
حتى قيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم، ولا يستحون من مجالسيهم، وربما وقع (3) منهم الفعلة العظيمة في المحافل ولا يستنكفون، ولا يرعوون لوعظ واعظ ولا نصيحة من عاقل.
وكانوا في ذلك وغيره كالانعام بل أضل سبيلا، ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر، ولا ندموا على ما سلف من الماضي، ولا راموا في المستقبل تحويلا، فأخذهم الله أخذا وبيلا.
وقالوا له فيما قالوا: " ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين " فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الاليم، وحلول البأس العظيم.
__________
(1) من ا.
(2) من ا.
(3) ا: وقد أوقع.
(*)
فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم، فسأل من رب العالمين وإله المرسلين أن ينصره على القوم المفسدين.
فغار الله لغيرته، وغضب لغضبته ; واستجاب لدعوته، وأجابه إلى طلبته، وبعث رسله الكرام، وملائكته العظام، فمروا على الخليل إبراهيم وبشروه بالغلام العليم، وأخبروه بما جاءوا له من الامر الجسيم والخطب العميم: " قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة عند ربك للمسرفين " وقال: " ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا، قالوا نحون أعلم بمن فيها.
لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ".
وقال الله تعالى: " فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ".
وذلك أنه كان يرجو أن [ يجيبوا أو (1) ] ينيبوا ويسلموا ويفلعوا ويرجعوا، ولهذا قال تعالى: " إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود " أي أعرض عن هذا وتكلم في غيره ; فإنه قد حتم أمرهم، ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم، " إنه قد جاء أمر ربك " أي قد أمر به من لايرد أمره، ولا يرد بأسه، ولا معقب لحكمه.
" وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ".
وذكر سعيد بن جبير والسدى وقتادة ومحمد بن إسحق: أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول: أنهلكون قرية يها ثلاثمائة مؤمن [ قالوا لا ] (2)
__________
(1) من ا.
(2) سقطت من ا.
(*)
قال: فمائتا مؤمن ؟ قالوا: لا.
قال: فأربعون مؤمنا ؟ قالوا: لا.
قال: فأربعة عشر مؤمنا ؟ قالوا: لا.
قال ابن إسحاق: إلى أن قال: أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد ؟ قالوا لا.
" قال: إن فيها لوطا، قالوا نحن أعلم بمن فيها.
" الآية.
وعند أهل الكتاب أنه قال: يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلا صالحا ؟ فقال الله: " لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحا ".
ثم تنازل إلى عشرة فقال الله: " لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون ".
قال الله تعالى: " ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ".
قال المفسرون: لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم - وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل - أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم، في صور شبان حسان، اختبارا من الله تعالى لقوم لوط وإقامة للحجة عليهم.
فاستضافوا لوطا عليه السلام وذلك عند غروب الشمس، فخشى إن لم يضفهم أن يضيفهم غيره، وحسبهم بشرا من الناس، و " سئ بهم وضاق بهم ذرعا، وقال هذا يوم عصيب " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومحمد بن إسحق: شديد بلاؤه.
وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم، كما كان يصنع بهم في غيرهم، وكانوا قد اشتطروا عليه أن لا يضيف أحدا، ولكن رأى من لا يمكن المحيد عنه.
وذكر قتادة: أنهم وردوا عليه وهو في أرض له يعمل فيها، فتضيفوا فاستحيا منهم وانطلق أمامهم، وجعل يعرض لهم في الكلام لعلهم ينصرفون
عن هذه القرية وينزلون في غيرها، فقال لهم فيما قال: [ والله (1) ] يا هؤلاء
ما أعلم على وجه الارض أهل بلد أخبث من هؤلاء.
ثم مشى قليلا، ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات، قال: وكانوا قد أمروا أن لا يهلكوهم حتى شهد عليهم نبيهم بذلك.
وقال السدى: خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقى من الماء لاهلها، وكانت له ابنتان: اسم الكبرى " ريثا " والصغرى " زغرتا ".
فقالوا لها: يا جارية، هل من منزل ؟ فقالت لهم: [ نعم (2) ] مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم.
شفقة (3) عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت: يا أبتاه ! أرادك فتيان على باب المدينة، ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم.
وقد كان قومه (4) نهوه أن يضيف رجلا [ فقالوا: خل عنا فلنضف الرجال (2) ].
فجاء بهم فلم يعلم أحد إلا أهل البيت، فخرجت امرأته فأخبرت قومها ; فقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط.
فجاءه قومه يهرعون إليه.
وقوله: " ومن قبل كانوا يعملون السيئات " أي هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة الكبيرة الكثيرة، " قال يا قوم هؤلاء بناتى هن أطهر لكم " يرشدهم إلى غشيان نسائهم وهن بناته شرعا ; لان النبي
__________
(1) من ا.
(2) ليست في ا (3) ط: فرقت عليهم من قومها (4) ا: وقد كانوا نهوه.
(*)
للامة بمنزلة الوالد، كما ورد في الحديث، وكما قال تعالى: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم (1) " وفى قول بعض الصحابة
والسلف: وهو أب لهم.
وهذا كقوله: " أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم، بل أنتم قوم عادون (2) ".
وهذا هو الذى نص عليه مجاهد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة والسدى ومحمد بن إسحاق، وهو الصواب.
والقول الآخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب، وقد تصحف عليهم كما أخطأوا في قولهم: إن الملائكة كانوا اثنين، وإنهم تعشوا عنده.
وقد خبط أهل الكتاب في هذه القصة تخبيطا عظيما.
وقوله: " فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد ؟ " نهى لهم عن تعاطى مالا يليق من الفاحشة، وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة ولا فيه خير، بل الجميع سفهاء، فجرة أقوياء، كفرة أغبياء (3).
وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوه منه من قبل أن يسألوه عنه.
فقال قومه، عليهم لعنة الله الحميد المجيد، مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الامر السديد: " لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ".
يقولون - عليهم لعائن الله - لقد علمت يالوط أنه لا أرب لنا في نسائنا، وإنك لتعلم مرادنا وغرضنا.
__________
(1) من الآية: 5 من سورة الاحزاب (2) الآيتان: 165، 166 من سورة الشعراء.
(3) ا: كفرة أعتياء (*)
واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم، ولم يخافوا سطوة العظيم، ذى العذاب الاليم.
ولهذا قال عليه السلام: " لو أن لى بكم قوة أو آوى
إلى ركن شديد ".
ود أن لو كان له بهم قوة، أوله منعة وشعيرة ينصرونه عليهم، ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب.
وقد قال الزهري عن سعيد بن المسيب وأبى سلمة عن أبى هريرة مرفوعا: " نحن أحق بالشك من إبراهيم، ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوى إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لاجبت الداعي ".
ورواه أبو الزناد (1) عن الاعرج عن أبى هريرة.
وقال محمد بن عمرو بن علقمة عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رحمة الله على لوط، إن كان يأوى (2) إلى ركن شديد - يعنى الله عزوجل - فما بعث الله بعده من نبى إلا في ثروة من قومه ".
وقال تعالى: " وجاء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون * قالوا أو لم ننهك عن العالمين * قال هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين ".
فأمرهم بقربان نسائهم، وحذرهم الاستمرار على طريقتهم وسيآتهم.
هذا وهم في ذلك لا ينتهون ولا يرعوون، بل كلما نهاهم (3) يبالغون في تحصيل هؤلاء الضيفان ويحرصون، ولم يعلموا ماحم (4) به القدر مماهم إليه صائرون وصبيحة ليلتهم إليه منقلبون.
__________
(1) ا: ورواه ابن أبى الدنيا (3) ا: لقد كان يأوى (4) ا: كلما لهم (5) ا: ما حم بهم (*)
ولهذا قال تعالى مقسما بحياة نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه: لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون " وقال تعالى: " ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا
بالنذر * ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر * ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر " (1).
ذكر المفسرون وغيرهم: أن نبى الله لوطا عليه السلام جعل يمانع قومه الدخول ويدافعهم والباب مغلق، وهم يرومون فتحه وولوجه، وهو يعظهم وينهاهم من وراء الباب، وكل مالهم في إلحاج وإنحاح (2)، فلما ضاق الامر وعسر الحال قال [ ما قال (3) ] " لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد "، لاحللت بكم النكال.
قالت الملائكة: " يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك " وذكروا أن جبريل عليه السلام خرج عليهم، فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه فطمست أعينهم، حتى قيل إنها غارت بالكلية ولم يبق لها محل ولا عين ولا أثر، فرجعوا يتحسسون مع الحيطان، ويتوعدون رسول الرحمن، ويقولون إذا كان الغد كان لنا وله شان !.
قال الله تعالى: " ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر * ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر " (4).
فذلك أن الملائكة تقدمت إلى لوط، عليه السلام، آمرين له بأن يسرى هو وأهله من آخر الليل.
" ولا يلتفت منكم أحد "، يعنى عند
__________
(1) ا: ورواه ابن أبى الدنيا (2) كذا في ا.
ولعلها إتباع كقولهم شحيح نحيح وفى ط: في الجاج والعاج وهو تحريف.
(3) من ا.
(*)
سماع صوت العذاب إذا حل بقومه.
وأمروه أن يكون سيره في آخرهم كالساقة لهم.
وقوله: " إلا امرأتك " على قراءة النصب: يحتمل أن يكون مستثنى من قوله: " فأسر بأهلك " كأنه يقول إلا امرأتك فلا تشربها، ويحتمل أن يكون من قوله: " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " أي فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم.
ويقوى هذا الاحتمال قراءة الرفع، ولكن الاول أظهر في المعنى.
والله أعلم.
قال السهيلي: واسم امرأة لوط " والهة "، واسم امرأة نوح " والغة " وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة، الملعونين النظراء والاشباه الذين جعلهم الله سلفا لكل خائن مريب: " إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ".
فلما خرج لوط عليه السلام بأهله، وهم ابنتاه، لم يتبعه منهم رجل واحد، ويقال إن امرأته خرجت معه.
فالله أعلم.
فلما خلصوا من بلادهم وطلعت الشمس فكانت عند شروقها، جاءهم من أمر الله ما لايرد، ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد.
وعند أهل الكتاب: أن الملائكة أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذى هناك فاستبعده، وسأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم، فقالوا اذهب فإنا ننتظرك حتى تصير إليها وتستقر فيها، ثم نحل بهم العذاب.
فذكروا أنه ذهب إلى قرية " صوعر " (1) التى يقول الناس: غور زغر، فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب.
__________
(1) ا: صغر.
(*)
قال الله تعالى: " فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ".
قالوا: اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن - وكن سبع مدن -
بمن فيهن من الامم، فقالوا إنهم كانوا أربعمائة نسمة، وقيل أربعة آلاف (1) نسمة، وما معهم من الحيوانات، وما يتبع تلك المدن من الاراضي والاماكن والمعتملات.
فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء، حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم ونباح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها.
قال مجاهد: فكان أول ما سقط منها شرفاتها.
" وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ".
[ والسجيل فارسي معرب (2) ] وهو الشديد الصلب القوى، " منضود " أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم من السماء.
" مسومة " أي معلمة مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذى يهبط عليه فيدمغه، كما قال: " مسومة عند ربك للمسرفين " وكما قال تعالى: " وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين "، وقال تعالى: " والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى فبأى آلاء ربك تتمارى " يعنى (3) قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها، وغشاها بمطر من حجارة من سجيل، متتابعة، مسومة مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذى سقط عليه ; من الحاضرين منهم في بلدهم، والغائبين عنها من المسافرين والنازحين والشاذين منها.
ويقال إن امرأة لوط مكثت مع قومها، ويقال إنها خرجت مع زوجها
__________
(1) ا: أربعة آلاف ألف نسمة (2) سقطت من ا.
(3) ا: أي قلبها.
(*)
وبنتيها، ولكنها لما سمعت الصيحة وسقوط البلدة، التفت إلى قومها وخالفت أمر ربها قديما وحديثا، وقالت: واقوماه (1) ! فسقط عليها حجر فدمغها وألحقها بقومها ; إذ كانت على دينهم، وكانت عينا لهم على
من يكون عند لوط من الضيفان.
كما قال تعالى: " ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأه نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين، فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله من الله شيئا، وقيل ادخلا النار مع الداخلين " (2) أي خانتاهما في الدين فلم يتبعاهما فيه.
وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة - حاشا وكلا ولما فإن الله لا يقدر على نبى قط (3) أن تبغى امرأته، كما قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف: ما بغت امرأة نبى قط.
ومن قال خلاف هذا قد أخطأ خطأ كبيرا (4).
قال الله تعالى في قصة الافك، لما أنزل براءة أم المؤمنين عائشة نبت الصديق، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الافك ما قالوا فعاتب الله المؤمنين وأنب وزجر، ووعظ وحذر قال فيما قال: " إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم * ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم " (5) أي سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة.
__________
(1) ا يا قومه.
(2) سورة التحريم.
(3) ا: على نبيه أن تبغى امرأته.
(4) ا: كثيرا.
(5) سورة النور (*)
وقوله هنا: " وما هي من الظالمين ببعيد " أي وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم.
ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم، سواء كان محصنا أولا.
ونص عليه الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من الائمة.
واحتجوا أيضا بما رواه الامام أحمد وأهل السنن من حديث عمرو بن أبى عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ".
وذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق [ جبل ] (1) ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط، لقوله تعالى: " وما هي الظالمين ببعيد " وجعل الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة لا ينتفع بمائها، ولا بما حولها من الاراضي المتاخمة لفنائها، لرداءتها ودناءتها فصارت عبرة ومثلة وعظة وآية على قدرة الله تعالى وعظمته، وعزته في انتقامه ممن خالف أمره، وكذب رسله، واتبع هواه وعصى مولاه، ودليلا على رحمته بعباده المؤمنين في إنجائه إياهم من المهلكات، وإخراجه إياهم من النور إلى الظلمات، كما قال تعالى: " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الحكيم ".
وقال الله تعالى: " فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن في ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم * إن في ذلك لآية للمؤمنين " أي من نظر بعين
__________
(1) ليست في ا.
(*)
الفراسة والتوسم فيهم (1)، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها ؟ وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة هالكة غامرة ؟ كما روى الترمذي وغيره مرفوعا: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين ".
وقوله: " وإنها لبسبيل مقيم " أي لبطريق مهيع مسلوك إلى الآن.
كما قال: " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون ".
وقال تعالى: " ولقد تركناها آية بينة لقوم يعقلون " وقال تعالى: " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيخها غير بيت من المسلمين * وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم ".
أي تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة، وخشى الرحمن بالغيب، وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فأنزجر عن محارم الله وترك معاصيه، وخاف أن يشابه قوم لوط.
ومن تشبه بقوم فهو منهم، وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه ; كما قال بعضهم: فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم * فما قوم لوط منكم ببعيد فالعاقل اللبيب الفاهم الخائف من ربه، يمتثل ما أمره الله به عزوجل، ويقبل ما أرشده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال، والجوارى من السرارى ذوات الجمال، وإياه أن يتبع كل شيطان مريد، فيحق عليه الوعيد، ويدخل في قوله تعالى: " وما هي من الظالمين ببعيد ".
__________
(1) ط: فهم.
(*)
|