قصص الانبياء - ابن كثير - هود عليه السلام
 
هود عليه السلام

قصة هود عليه السلام وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام.
ويقال إن هودا هو عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، ويقال هود بن عبد الله بن رباح الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
ذكره ابن جرير.
وكان من قبيلة يقال لهم عاد بن عوض بن سام بن نوح.
وكانوا عربا يسكنون الاحقاف - وهى جبال الرمل - وكانت باليمن بين عمان وحضر موت، بأرض مطلة على البحر يقال لها الشحر، واسم واديهم مغيث.
وكانوا كثيرا ما يسكنون الخيام ذوات الاعمدة الضخام، كما قال تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد " أي عاد إرم وهم عاد الاولى.
وأما عاد الثانية فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه.
وأما عاد الاولى فهم عاد " إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها في البلاد " أي مثل القبيلة، وقيل مثل العمد.
والصحيح الاول كما بيناه في التفسير.
ومن زعم أن " إرم " مدينة تدور في الارض، فتارة في الشام، وتارة في اليمن ; وتارة في الحجاز، وتارة في غيرها، فقد أبعد النجعة، وقال ما لا دليل عليه، ولا برهان يعول عليه، ولا مستند يركن إليه.

وفى صحيح ابن جبان عن أبى ذر في حديثه الطويل في ذكر الانبياء والمرسلين قال فيه: " منهم أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب ونبيك يا أبا ذر ".
ويقال إن هودا عليه السلام أول من تكلم بالعربية، وزعم وهب ابن منبه أن أباه أول من تكلم بها، وقال غيره: أول من تكلم بها نوح، وقيل آدم وهو الاشبه، وقيل غير ذلك.
والله أعلم.
ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام، العرب العاربة، وهم قبائل كثيرة: منهم عاد، وثمود، وجرهم، وطسم، وجديس ; وأميم، ومدين، وعملاق، وعبيل، وجاسم، وقحطان، وبنو يقطن، وغيرهم.
وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل.
وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان.
وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن عادا - وهم عاد الاولى - كانوا أول من عبد الاصنام بعد الطوفان.
وكانت أصنامهم ثلاثة: صدا وصمودا، وهرا.
فبعث الله فيهم أخاهم هودا عليه السلام فدعاهم إلى الله، كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح، وما كان من أمرهم في سورة الاعراف:

" وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون * قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا
لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بى سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربى وانا لكم ناصح أمين * أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ؟ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادكم في الخلق بسطة، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون * قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده، ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب، اتجادلوننى في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ؟ فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين (1) ".
وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود: " وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا، إن أجرى إلا على الذى فطرني أفلا تعقلون * ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويردكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين * قالوا يا هود ما جئتنا ببينة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء.
قال إنى أشهد الله واشهدوا
__________
(1) الآيات من 65 - 72 (*)

أنى برئ مما تشكرون من دونه، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إنى توكلت على الله ربى وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم،
ويستخلف ربى قوما غيركم، ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل شئ حفيظ * ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا، ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة، ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود (1) ".
وقال تعالى في سورة " قد أفلح المؤمنون " بعد قصة قوم نوح: " ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين * فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرني بما كذبون * قال عما قليل ليصبحن نادمين * فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين " (2).
__________
(1) الآيات: من 50 - 60.
(2) الآيات من 31 - 41 (*)

وقال تعالى في سورة الشعراء بعد قصة قوم نوح أيضا: " وكذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ؟ إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتبنون بكل ريع آية تعبثون ؟ وتتخذون مصانع لعلكم
تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذى أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الاولين * وما نحن بمعذبين * فكذبوه فأهلكناهم، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم (1) ".
وقال تعالى في سورة حم السجدة: " فأما عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق وقالوا من أشد مناقوة ؟ أو لم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات، لنذيقهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون (2) ".
وقال تعالى في سورة الاحقاف: " واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف، وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه أن لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا أجئتنا لتافكنا عن آلهتنا ؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما العلم عند الله وأبلغكم
__________
(1) الآيات: 123 - 140 الآيتان 15، 16 (*)

ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون * فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شئ بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، كذلك نجزى القوم المجرمين (1) ".
وقال تعالى ف الذاريات: " وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم *
ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم ".
وقال تعالى في النجم: " وأنه أهلك عادا الاولى * وثمود فما أبقى * وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى * والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى * فبأى آلاء ربك تتمارى ".
وقال تعالى في سورة اقتربت: " كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ".
وقال في الحاقة: " وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية ".
وقال في سورة الفجر: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد "
__________
(1) الآيات: 21، 25 (*)

وفرعون ذى الاوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد ".
وقد تكلمنا على كل من هذه القصص في أماكنها من كتابنا التفسير.
ولله الحمد والمنة.
وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة وإبراهيم والفرقان والعنكبوت وفى سورة ص، وفى سورة ق.
* * *
ولنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه السياقات، مع ما يضاف إلى ذلك من الاخبار.
وقد قدمنا أنهم أول الامم الذين عبدوا الاصنام بعد الطوفان.
وذلك بين في قوله لهم: " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة " أي جعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش.
وقال في المؤمنون: " ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " وهم قوم هود على الصحيح.
وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله: " فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء ".
قالوا: وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة " وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية ".
وهذا الذى قالوه لا يمنع من اجتماع الصيحة والريح العاتية عليهم كما سيأتي في قصة أهل مدين اصحاب الايكة فإنه اجتمع عليهم أنواع من العقوبات، ثم لا خلاف أن عادا قبل ثمود.

والمقصود أن عادا كانوا جفاة كافرين، عتاة متمردين في عبادة الاصنام، فأرسل الله فيهم رجلا منهم يدعوهم إلى الله وإلى إفراده بالعبادة والاخلاص له، فكذبوه وخالفوه وتنقصوه، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
فلما أمرهم بعبادة الله ورغبهم في طاعته واستغفاره، ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة، وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة " قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة " أي هذا الامر الذى تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الاصنام التى يرتجى منها النصر والرزق، ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك
أن الله أرسلك.
" قال يا قوم ليس بى سفاهة ولكني رسول من رب العالمين "، أي ليس الامر كما تظنون ولا كما (1) تعتقدون " أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين " والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ، وعدم الزيادة فيه والنقص منه، ويستلزم أداءه (2) بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة لا لبس فيها ولا اختلاف ولا اضطراب.
وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه والشفقة عليهم والحرص على هدايتهم، لا يبتغى منهم أجرا ولا يطلب منهم جعلا ; بل هو مخلص لله عزوجل في الدعوة إليه والنصح لخلقه، لا يطلب أجره إلا من الذى أرسله، فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه وأمره إليه
__________
(1) ا: ولا ما تعتقدون.
(2) ط: إبلاغه.
(*)

ولهذا وقال: " يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرني أفلا تعقلون " أي أما لكم عقل تميزون به وتفهمون أنى أدعوكم إلى الحق المبين الذى تشهد به فطركم التى خلقتم عليها، وهو دين الحق الذى بعث الله به نوحا وأهلك من خالفه من الخلق.
وها أنا أدعوكم إليه ولا أسألكم أجرا عليه، بل أبتغى ذلك عند الله مالك الضر والنفع.
ولهذا قال مؤمن " يس ": " اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * ومالى لا أعبد الذى فطرني وإليه ترجعون ؟ " وقال قوم هود له فيما قالوا: " يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء "، يقولون ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق
ماجئت به، وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك ; بلا دليل أقمته ولا برهان نصبته، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه.
وعندنا أنه إنما أصابك هذا لان بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فأعتراك جنون بسبب ذلك.
وهو قولهم: " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ".
" قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برئ مما تشكرون من دونه، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ".
وهذا تحد منه لهم، وتبرأ من آلهتهم وتنقص منه لها، وبيان أنها لا تنفع شيئا ولا تضر، وأنها جماد حكمها حكمه وفعلها فعله.
فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضر فها أنا برئ منها

لا عن لها " فكيدوني ثم لا تنظرون " أنتم جميعا بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه، ولا تؤخروني ساعة واحدة ولا طرفة عين فإنى لا ابالى بكم ولا أفكر فيكم، ولا أنظر إليكم.
" إنى توكلت على الله ربى وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربى على صراط مستقيم " أي أنا متوكل على الله ومتأيد به، وواثق بجنابه الذى لا يضيع من لاذبه واستند إليه، فلست أبالى مخلوقا سواه، لست أتوكل إلا عليه ولا أعبد إلا إياه.
وهذا وحده برهان قاطع على أن هودا عبد الله ورسوله، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله ; لانهم لم يصلوا إليه بسوء ولا نالوا منه مكروها.
فدل على صدقه فيما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه وفساد ما ذهبوا إليه.
وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله: " يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا إلى ولا تنظرون (1) ".
وهكذا قال الخليل عليه السلام: " ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا، وسع ربى كل شئ علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ؟ فأى الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا
__________
(1) من الآية: 71 من سوره يونس (م 9 - قصص الانبياء 1) (*)

إيمانهم بظلم، أولئك لهم الامن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (1) " " وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا، ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون * أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون (2) ".
استبعدوا أن يبعث الله رسولا بشريا.
وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديما وحديثا، كما قال تعالى: " أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس (3) " وقال تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء
ملكا رسولا (4) ".
ولهذا قال لهم هود عليه السلام: " أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم " أي ليس هذا بعجيب ; فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وقوله: " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين *
__________
(1) سورة الانعام: 80: 83 (2) سورة المؤمنون: 33: 35.
(3) أول سورة يونس.
(4) الآيتان: 94، 95 من سورة الاسراء.
(*)

قال ربى انصرني بما كذبون " استبعدوا الميعاد وأنكروا قيام الاجساد بعد صيرورتها ترابا وعظاما، وقالوا: هيهات هيهات، أي بعيد بعيد هذا الوعد، " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " أي يموت قوم ويحيا آخرون.
وهذا هو اعتقاد الدهرية، كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة: ارحام تدفع وأرض تبلع.
وأما الدورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار بعد كل ستة وثلاثين الف سنة.
وهذا كله كذب وكفر وجهل وضلال، وأقوال باطلة وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل، يستميل عقل الفجرة الكفرة من بنى آدم الذين لا يعقلون ولا يهتدون، كما قال تعالى: " ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون ".
(2) وقال لهم فيما وعظهم به: " أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون
مصانع لعلكم تخلدون ".
يقول لهم: أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيما هائلا كالقصور ونحوها، تعبثون ببنائها لانه لا حاجة لكم فيه، وما ذاك إلا لانهم كانوا يسكنون الخيام، كما قال تعالى: " ألم تركيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها في البلاد " فعاد إرم هم عاد الاولى الذين كانوا يسكنون الاعمدة التى تحمل الخيام.
ومن زعم أن " إرم " مدينة من ذهب وفضة وهى تنتقل في البلاد، فقد غلط وأخطأ، وقال مالا دليل عليه.
__________
(1) الآية: 113 من سورة الانعام (*)

وقوله: " وتتخذون مصانع " قيل هي القصور، وقيل بروج الحمام وقيل مآخذ الماء " لعلكم تخلدون " أي رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعمارا طويلة " وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذى أمدكم بما تعلمون * أمدكم بانعام وبنين * وجنات وعيون * إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ".
وقالوا له مما قالوا: " أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " أي أجئتنا لنعبد الله وحده، ونخالف آباؤنا وأسلافنا وما كانوا عليه ؟ فإن كنت صادقا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال، فإنا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدقك.
كما قالوا: " سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الاولين * وما نحن بمعذبين ".
اما على قراءة فتح الخاء، فالمراد به اختلاق الاولين، أي إن هذا الذى جئت به إلا اختلاق
منك، أخذته من كتب الاولين.
هكذا فسره غير واحد من الصحابة والتابعين.
وأما على قراءة ضم الخاء واللام - فالمراد به الدين ; أي إن هذا الدين الذى نحن عليه إلا دين [ الاولين (1) ] الآباء والاجداد من الاسلاف (2)، ولن نتحول عنه ولا نتغير، ولا نزال متمسكين به.
ويناسب كلا القراءتين الاولى والثانية قولهم: " وما نحن بمعذبين "
__________
(1) من ا (2) ط: من أسلافنا.
(*)

قال: " قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب، أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ؟ فانتظروا إنى معكم من المنتظرين " أي قد استحققتم بهذه المقالة الرجس والغضب من الله، أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام أنتم نحتموها وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم ؟ اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم، ما نزل الله بها من سلطان.
أي لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليل ولا برهانا.
وإذ أبيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل، وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا، فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم، وبأسه الذى لا يرد ونكاله الذى لا يصد.
* * * وقال تعالى: " قال رب انصرني بما كذبون * قال عما قليل ليصبحن نادمين * فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين " وقال تعالى: " قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا ؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون * فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم، قالوا
هذا عارض ممطرنا، بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شئ بأمر بها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، كذلك نجزى القوم المجرمين ".
وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما آية كما تقدم مجملا ومفصلا، كقوله: [ " فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين

كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين (1) " ] وكقوله: " ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ * وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود " وكقوله: " فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين " وقال تعالى: " فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم ".
وأما تفصيل إهلاكهم فكما (2) قال تعالى: " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " [ كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب، أنهم كانوا ممحلين مسنتين (3)، فطلبوا السقيا فرأوا عارضا في السماء وظنوه سقيا رحمة، فإذا هو سقيا عذاب.
ولهذا قال تعالى: " بل هو ما استعجلتم به " أي من وقوع العذاب (4) ] وهو قولهم: " فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " ومثلها في الاعراف.
وقد ذكر المفسرون وغيرهم هاهنا الخبر الذى ذكره الامام محمد بن إسحق بن يسار (5) قال: فلما أبوا إلا الكفر بالله عزوجل، أمسك
عنهم القطر (6) ثلاث سنين، حتى جهدهم ذلك.
قال: وكان الناس إذا
__________
(1) ليست في ا.
(2) ط: فلما.
وهو تحريف.
(3) ممحلين: أصابهم المحل وهو الشدة وانقطاع المطر.
ومسنتين: أصابتهم السنة وهى الجدب والقحط.
(4) سقطت من ا.
(5) المطبوعة: بشار.
وهو تحريف (6) ط: المطر.
(*)

جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من الله الفرج منه إنما يطلبونه بحرمة ومكان بيته.
وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان، وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكانت أمه من قوم عاد واسمها جلهدة ابنة الخيبرى.
قال: فبعث عاد وفدا قريبا من سبعين رجلا ليستسقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر [ بظاهر مكة، فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا، يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان، قينتان لمعاوية (1) ] وكانوا قد وصلوا إليه في شهر.
فلما طال مقامهم عنده، وأخذته شفقة على قومه، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف - عمل شعرا يعرض لهم فيه (2) بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنيهم به، فقال: ألا يا قيل ويحك قم فهينم * لعل الله يصحبنا (2) غماما فيسقى أرض عاد إن عادا * قد امسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو * به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير * فقد أمست نساؤهم أيامى وإن الوحش يأتيهم جهارا * ولا يخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم * نهاركم وليلكم تماما (3)
فقبح وفدكم من وفد قوم * ولا لقوا التحية والسلاما قال: فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم ودعوا لقومهم، فدعا داعيهم وهو قيل بن عنز، فأنشأ الله سحابات ثلاثا:
__________
(1) ليست في ا.
(2) ط: يمنحنا.
(3) ا: التماما.
ولعلها: نياما.
(*)

بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: اختر لنفسك أو لقومك من هذا السحاب، فقال: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه مناد: اخترت رماد رمددا، لا تبقى من عاد أحدا، لا والدا يترك ولا ولدا إلا جعلته همدا إلا بنى اللوذية الهمدا.
قال: وهم بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم.
قال: ومن بقى من أنسابهم وأعقابهم هم عاد الآخرة.
قال: وساق الله السحابة السوداء التى اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا، وقالوا هذا عارض ممطرنا، فيقول تعالى: " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شئ بأمر ربها " أي [ تهلك (1) ] كل شئ أمرت به.
فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنهغا ريح فيما يذكرون أمرأة من عاد يقال لها " مهد "، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت.
فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا مهد ؟ قالت رأيت ريحا فيها شبه (2) النار أمامها رجال يقودونها، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، والحسوم الدائمة ; فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك.
قال: واعتزل هود عليه السلام - فيما ذكر لى - في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين، ما يصيبهم إلا ما تلين عليه الجلود، وتلذ (3) الانفس، وإنها
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: كشهب النار (3) ا: ويلبد.
(*)

التمر على عاد بالظعن فيما بين السماء والارض، وتدمغهم بالحجارة.
وذكر تمام القصة.
وقد روى الامام أحمد حديثا في مسنده يشبه هذه القصة فقال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم ابن أبى النجود، عن أبى وائل، عن الحارث - وهو ابن حسان - ويقال ابن يزيد البكري، قال: خرجت أشكو العلاء [ بن (1) ] الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بنى تميم منقطع بها، فقالت لى: يا عبد الله إن لى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال: فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت ما شأن الناس ؟ قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها.
قال: فجلست، قال فدخل منزله - أو قال رحله - فاستأذنت عليه فاذن لى، فدخلت فسلمت فقال: " هل كان بينكم وبين بنى تميم شئ " ؟ فقلت: نعم.
وكانت لنا الدائرة (2) عليهم ومررت بعجوز من بنى تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك وهامى بالباب، فأذن لها فدخلت، فقلت يا رسول الله: إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بنى تميم حاجزا، فاجعل الدهناء (3) [ فإنها كانت لنا، قال (4) ] فحميت العجوز واستوفزت وقالت
__________
(1) سقطت من ا.
(2) ا: الدبرة (3) ط: الدهماء.
وهو تحريف.
(4) ليست في ا (*)

يا رسول الله فإلى أين يضطر مضطرك ؟ قال: فقلت: إن مثلى ما قال الاول: " معزى حملت حتفها " حملت هذه الامة [ ولا (1) ] أشعر أنها كانت لى خصما، أعوذ بالله ورسوله [ أن أكون (1) ] كوافد عاد، قال: [ هيه (1) ] وما وافد عاد ؟ وهو أعلم بالحديث منى (2) ولكن يستطعمه.
قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية ابن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة (3)، فقال: اللهم إنك تعلم أنى لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه.
فمرت به سحابات سود فنودى: منها اختر.
فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودى منها: خذها رمادا رمددا، لا تبقى من عاد أحدا.
قال: فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا كقدر ما يجرى في خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا.
قال أبو وائل: وصدق، وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا (4) لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد.
وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب به.
ورواه النسائي من حديث سلام أبى المنذر عن عاصم بن بهدلة، ومن طريقه رواه ابن ماجة.
وهكذا أورد هذا الحديث وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين كاين جرير وغيره.
__________
(1) سقطت من ا.
(2) ا: بالحديث فيه.
(3) ا: جبال مهرة.
(4) ط: وفدا.
(*)

وقد يكون هذا السياق لاهلاك عاد الآخرة ; فإن فيما ذكره ابن إسحاق وغيره ذكر لمكة، ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل، حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل، فنزلت جرهم عندهم كما سيأتي، وعاد الاولى قبل الخليل، وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الاولى، ولا يشبه كلام المتقدمين.
وفيه أن في تلك السحابة شرر نار، وعاد الاولى إنما أهلكوا بريح صرصر.
وقد قال ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من أئمة التابعين: هي الباردة، والعاتية الشديد الهبوب.
" سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " أي كوامل متتابعات.
قيل كان أولها الجمعة، وقيل الاربعاء.
" فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية " شبههم بأعجاز النخل التى لارءوس لها، وذلك لان الريح كانت تجئ إلى أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء ; ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى جثة بلا رأس، كما قال: " إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر [ أي في يوم نحس عليهم، مستمر (1) ] عذابه عليهم.
" تنزع الناس كأنهم اعجاز نخل منقعر " ومن قال إن اليوم النحس المستمر هو يوم الاربعاء وتشاءم به لهذا الفهم، فقد أخطأ وخالف القرآن ; فإنه قال في الآية الاخرى: " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات " ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات، فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت
__________
(1) سقطت من ا.
(*)

جميع الايام السبعة المندرجة فيها (1) مشئومة، وهذا لا يقوله أحد، وإنما المراد في أيام نحسات، أي عليهم.
وقال تعالى: " وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم " أي التى لا تنتج خيرا، فإن الريح المفردة لا تثير سحابا ولا تلقح شجرا، بل هي عقيم لا نتيجة خير لها، ولهذا قال: " ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم " أي كالشئ البالى الفاني الذى لا ينتفع به بالكلية.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نصرت بالصبا، واهلكت عاد بالدبور ".
وأما قوله تعالى: " واذكر أخا عاد إذ انذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله، إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " فالظاهر أن عادا هذه هي عاد الاولى ; فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود وهم الاولى.
ويحتمل أن يكون المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية.
ويدل عليه ما ذكرنا وما سيأتي من الحديث عن عائشة رضى الله عنها.
وأما قوله: " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا " فإن عادا لما رأوا هذا العارض وهو الناشئ في الجو كالسحاب ظنوه سحاب مطر، فإذا هو سحاب عذاب.
اعتقدوه رحمة فإذا هو نقمة
__________
(1) ا: المندرجة في الثمانية (*)

رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر.
قال الله تعالى: " بل هو ما استعجلتم به " [ أي من العذاب، ثم فسره بقوله (1) ]: " ريح فيها عذاب
أليم " يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوط، التى استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية فلم تبق منهم أحدا، بل تتبعتهم حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال والغيران فتلفهم وتخرجهم وتهلكهم، وتدمر عليهم البيوت المحكمة والقصور المشيدة، فكما منوا بشدتهم وبقوتهم (2) وقالوا: من أشد منا قوة ؟ ! سلط الله عليهم ما هو أشد منهم قوة، وأقدر عليهم، وهو الريح العقيم.
ويحتمل أن هذه الريح اثارت في آخر الامر سحابة، ظن من بقى منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم وغياث لمن بقى منهم، فأرسلها الله عليهم شررا ونارا.
[ كما ذكره غير واحد.
ويكون هذا (1) ] كما أصاب أصحاب الظلة من أهل مدين، وجمع لهم بين الريح الباردة وعذاب النار، وهو أشد ما يكون من العذاب بالاشياء المختلفة المتضادة، مع الصيحة التى ذكرها في سورة قد أفلح المؤمنون.
والله أعلم.
وقد قال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى، حدثنا محمد بن يحيى [ بن ] (1) الضريس.
حدثنا ابن فضيل عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فتح الله على عاد من الريح التى أهلكوا بها إلا مثل [ موضع (1) ] الخاتم، فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم [ وأموالهم (1) ] بين السماء والارض، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة
__________
(1) ليست في ا.
(2) ط: بقوتهم وشدتهم (2) ليست في ا.
(*)

من عاد، الريح وما فيها " قالوا هذا عارض ممطرنا " فالقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة.
وقد رواه الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن اسماعيل بن زكريا الكوفى، عن أبى مالك، عن مسلم الملائى، عن مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فتح الله على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم، ثم أرسلت عليهم البدو إلى الحضر، فلما رآها أهل الحضر قالوا هذا عارض ممطرنا مستقبل أو ديتنا.
وكان أهل البوادى فيها، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا ".
قال: عتت على حزانها (1) حتى خرجت من خلال الابواب.
قلت: وقال غيره: خرجت بغير حساب.
[ والمقصود أن هذا الحديث في رفعه نظر.
ثم اختلف فيه على مسلم الملائى، وفيه نوع اضطراب (2) ] والله أعلم.
وظاهر الآية أنهم رأوا عارضا والمفهوم منه لغة السحاب، كما دل عليه حديث الحارث بن حسان البكري، إن جعلناه مفسرا لهذه القصة.
وأصرح منه في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال: حدثنا أبو [ بكر (2) ] الطاهر، حدثنا ابن وهب قال: سمعت ابن جريج حدثنا
__________
(1) ط: عن خزائنها.
ولعله تحريف (2) سقط من ا (3) ط: لمعة.
وهو تحريف.
(*)

عن عطاء بن أبى رباح، عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: " اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به " قالت: " وإذا غيبت السماء تغير لونه، وخرج
ودخل، وأقبل وأدبر.
فإذا أمطرت سرى عنه، فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال: " لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث ابن جريج.
طريق أخرى: قال الامام أحمد: حدثنا هرون بن معروف، أنبأنا عبد الله بن وهب، أنبأنا عمرو - [ وهو (1) ] ابن الحارث - أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته (2)، إنما كان يتبسم وقالت: كان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، قالت يا رسول الله: [ إن (1) ] الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال: " يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ! قد عذب قوم نوح بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا " [ فهذا الحديث كالصريح في تغاير القصتين كما أشرنا إليه أولا.
فعلى هذا تكون القصة المذكورة في سورة الاحقاف خبرا عن قوم عاد الثانية وتكون بقية السياقات في القرآن خبرا عن عاد الاولى، والله أعلم بالصواب (1).
]
__________
(1) ليست في ا.
(2) اللهوات: جمع لهاة وهى لحمة ناتئة في أقصى الحلق.
(*)

وهكذا رواه مسلم عن هارون بن معروف، وأخرجه البخاري وأبو داود من حديث ابن وهب.
وقدمنا حج هود عليه السلام عند ذكر حج نوح عليه السلام.
وروى عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام
في بلاد اليمن.
وذكر آخرون أنه بدمشق، وبجامعها مكان في حائطه القبلى يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام.
والله أعلم.

 
 

Document sans titre
 

Warning: main() [function.main]: open_basedir restriction in effect. File(/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php) is not within the allowed path(s): (/mnt/110/sda/d/6/kutub) in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/006.php on line 308

Warning: main(/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php) [function.main]: failed to open stream: Operation not permitted in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/006.php on line 308

Warning: main() [function.include]: Failed opening '/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php' for inclusion (include_path='/mnt/110/sda/d/6/kutub/include:.:/usr/php4/lib/php') in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/006.php on line 308