قصة ذى الكفل الذى زعم قوم أنه ابن أيوب قال الله تعالى بعد (1) قصة أيوب في سورة الانبياء: " وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين * وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من
الصالحين ".
وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضا في سورة ص: " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الايدى والابصار * إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار * واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار ".
فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلاء السادة الانبياء أنه نبى، على من ربه الصلاة والسلام.
وهذا هو المشهور.
وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيا، وإنما كان رجلا صالحا وحكما مقسطا (2) [ عادلا.
وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم ] (3).
وروى ابن جرير وأبو نجيح عن مجاهد: أنه لم يكن نبيا وإنما كان رجلا [ صالحا (4) ].
وكان قد تكفل لبنى قومه أن يكفيهم أمرهم، ويقضى بينهم بالعدل [ ففعل (4) ] فسمى ذاالكفل.
__________
(1) ا: في قصة أيوب.
(2) ا: وحكما عدلا (3) ليست في ا.
(4) سقطت من ط (*)
وروى ابن جرير وابن أبى حاتم من طريق داود بن أبى هند، عن مجاهد أنه قال: لما كبر اليسع قال: لو أنى استخلف رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي، حتى أنظر كيف يعمل ؟ فجمع الناس فقال: من يتقبل منى (1) بثلاث أستخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب.
قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال أنا.
فقال: أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال نعم.
قال: فرده ذلك اليوم، وقال
مثلها [ في ] (2) اليوم الآخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال أنا، فاستخلفه.
قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فأعياهم ذلك.
فقال دعوني وإياه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لاينام الليل والنهار إلا تلك النومة، فدق الباب فقال: من هذا ؟ قال: شيخ كبير مظلوم.
قال: فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه، فقال إن بينى وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني وفعلوا بى وفعلوا، وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة.
فقال: إذا رحت فإننى آخذ لك بحقك.
فانطلق وراح فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره، فقام يتبعه.
فلما كان الغد جعل يقضى بين الناس وينتظره فلا يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب، فقال: من هذا ؟ فقال: الشيخ الكبير المظلوم.
ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ؟
__________
(1) ا: من يتقبل لى.
(2) ليست في ا.
(*)
قال: إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني.
قال: فانطلق فإذا رحت فأتني.
قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظره فلا يراه، وشق عليه النعاس فقال لبعض أهله، لاتدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام، فإنى قد شق على النوم.
فلما كان تلك الساعة جاء، فقال له الرجل: وراءك وراءك.
فقال: قد أتيته أمس وذكرت له أمرى.
فقال: لا والله، لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه.
فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور
منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل.
قال: فاستيقظ الرجل، فقال: يا فلان ألم آمرك ؟ قال: أما من قبلى والله فلم تؤت، فانظر من أين اتيت ؟ قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه.
فقال: أعدو الله ؟ قال نعم، أعييتني في كل شئ ففعلت كل ما ترى لاغضبك.
فسماه الله ذا الكفل، لانه تكفل بأمر فوفى به ! و [ قد ] (1) روى ابن أبى حاتم أيضا عن ابن عباس قريبا من هذا السياق وهكذا روى عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وابن حجيرة الاكبر، وغيرهم من السلف نحو هذا.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى، حدثنا أبوالجماهر، أنبأنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة، عن كنانة بن الاخنس، قال: سمعت الاشعري
__________
(1) ليست في ا.
(*)
- يعنى أبا موسى رضى الله عنه - وهو على هذا المنبر يقول: ماكان ذوالكفل نبيا (1) ولكن كان رجل صالح يصلى كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذوالكفل من بعده [ فكان (2) ] يصلى كل يوم مائة صلاة، فسمى ذاالكفل.
ورواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: قال أبو موسى الاشعري فذكره منقطعا.
فأما الحديث الذى رواه الامام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الاعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر
قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع مرار - لم أحدث به، ولكني قد سمعته أكثر من ذلك قال: " كان الكفل من بنى إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأه فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت، فقال [ لها (2) ] ما يبكيك ؟ أأكرهتك ؟ قالت لا: ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملتني عليه الحاجة.
قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ! ثم نزل فقال اذهبي بالدنانير لك.
ثم قال: والله لا يعصى الله الكفل أبدا، فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه: قد غفر الله للكفل ! ورواه الترمذي من حديث الاعمش به وقال حسن، وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر.
__________
(1) ا: بنبى.
(2) ليست في ا.
(*)
فهو حديث غريب جدا وفى إسناده نظر، فإن سعدا هذا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد.
ووثقه ابن حبان، ولم يرو عنه سوى عبد الله (1) بن عبد الله الرازي هذا.
فالله أعلم.
وإن كان محفوظا فليس هو ذا الكفل [ وإنما لفظ الحديث الكفل (2) ] من غير إضافة فهو رجل آخر غير المذكور في القرآن.
فالله تعالى أعلم.
__________
(1) ا: ولم يرو عنه إلا عبد الله.
(2) ليست في ا.
(*)
باب ذكر اسم أهلكوا بعامة
وذلك قبل نزول التوراة بدليل قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الاولى.." الآية (1).
كما رواه ابن جرير وابن أبى حاتم والبزار من حديث عوف الاعرابي عن أبى نضرة عن أبى سعيد الخدرى قال: ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء أو من الارض، بعد ما أنزلت التوراة على وجه الارض، غير القرية التى مسخوا قردة.
ألم تر أن الله تعالى يقول: " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الاولى ".
ورفعه البزار في رواية له.
والاشبه والله أعلم وقفه.
فدل على أن كل أمة أهلكت بعامة قبل موسى عليه السلام.
فمنهم: أصحاب الرس قال الله تعالى في سورة الفرقان: " وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا * وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا ".
وقال تعالى في سورة ق: " كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود * وعاد وفرعون وإخوان لوط * وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد ".
__________
(1) الآية: 42 من سورة القصص.
(*)
وهذا السياق والذى قبله، يدل على أنهم أهلكوا ودمروا وتبروا، وهو الهلاك.
وهذا يرد اختيار ابن جرير من أنهم أصحاب الاخدود الذين ذكروا في سورة البروج، لان أولئك عند ابن إسحق وجماعة كانوا بعد المسيح
عليه السلام.
وفيه نظر أيضا.
وروى ابن جرير قال قال ابن عباس: أصحاب الرس أهل قرية من قرى ثمود.
وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر في أول تاريخه، عند ذكر بناء دمشق، عن تاريخ أبى القاسم عبد الله بن عبد الله بن جرداد وغيره، أن أصحاب الرس كانوا بحضور، فبعث الله إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان، فكذبوه وقتلوه.
فسار عاد بن عوص بن إرم ابن سام بن نوح وولده من الرس، فنزل الاحقاف.
وأهلك الله أصحاب الرس وانتشروا في اليمن كلها، وفشوا مع ذلك في الارض كلها.
حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، دمشق وبنى مدينتها، وسماها جيرون، وهى إرم ذات العماد.
وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الحلود بن عاد، إلى عاد، يعنى أولاد عاد بالاحقاف فكذبوه، فأهلكهم الله عزوجل.
فهذا يقتضى أن أصحاب الرس قبل عاد بدهور متطاولة فالله أعلم.
__________
(1) الآيتان: 38 - 39: (*)
وروى ابن أبى حاتم عن أبى بكر بن أبى عاصم، عن أبيه عن شبيب ابن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الرس بئر بأذربيجان.
وقال الثوري عن أبى بكر عن عكرمة قال: الرس بئر رسوا فيها نبيهم، أي دفنوه فيها.
قال ابن جريج قال عكرمة: أصحاب الرس بفلج وهم أصحاب يس.
وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة.
قلت: فإن كانوا أصحاب يس كما زعمه عكرمة، فقد أهلكوا بعامة، قال الله تعالى في قصتهم: " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون " وستأتى قصتهم بعد هؤلاء.
وإن كانوا غيرهم، وهو الظاهر، فقد أهلكوا أيضا وتبروا.
وعلى كل تقدير فينافى ما ذكره ابن جرير.
وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن النقاس: أن أصحاب الرس كانت لهم بئر ترويهم وتكفى أرضهم جميعها، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة، فلما مات وجدوا عليه وجدا عظيما، فلما كان بعد أيام تصور لهم الشيطان في صورته وقال: إنى لم أمت، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم.
ففرحوا أشد الفرح، وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه، وأخبرهم أنه لا يموت أبدا، فصدق به أكثرهم، وافتتنوا به وعبدوه.
فبعث الله فيهم نبيا، فأخبرهم (1) أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب، ونهاهم عن عبادته، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.
__________
(1) ا: وأخبرهم.
(*)
قال السهيلي: وكان يوحى إليه في النوم، وكان اسمه حنظلة بن صفوان، فعدوا عليه فقتلوه وألقوه في البئر، فغار ماؤها وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم، وانقطعت ثمارهم، وخربت ديارهم.
وتبدلوا بعد الانس بالوحشة، وبعد الاجتماع بالفرقة، وهلكوا عن آخرهم، وسكن في مساكنهم الجن والوحوش (1)، فلا يسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن وزئير الاسود (2) وصوت الضباع.
فأما ما رواه - أعنى ابن جرير - عن محمد [ بن حميد عن سلمة عن (3) ] ابن إسحق عن محمد بن كعب القرظى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الاسود "، وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قربة فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الاسود، ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر أصم، قال: فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشترى به طعاما وشرابا، ثم يأتي به إلى تلك (4) البئر فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله عليها ويدلى إليه طعامه وشرابه، ثم يردها كما كانت.
قال: فكان كذلك ما شاء الله أن يكون.
ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحتملها وجد سنة، فاضطجع فنام (5)، فضرب الله على أذنه سبع سنين
__________
(1) ا: والوحش.
(2) ط: الاسد.
(3) سقطت من ا.
(4) ا: ذلك.
(5) ا: ينام (*)
نائما.
ثم إنه هب فتمطى فتحول (1) لشقه الآخر، فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى.
ثم إنه هب واحتمل حزمته ولا يحسب أنه نام (2) إلا ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمته ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع.
ثم [ إنه (3) ] ذهب إلى الحفيرة (4)، إلى موضعها الذى كانت فيه، فالتمسه فلم يجده.
وقد كان بدا لقومه فيها بداء، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه.
قال: فكان (5) نبيهم يسألهم عن ذلك الاسود ما فعل، فيقولون له ما ندرى ؟ حتى قبض الله النبي عليه السلام وهب (6) الاسود من نومته (7) بعد ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ذلك الاسود لاول من يدخل الجنة ".
فإنه [ حديث (8) ] مرسل ومثله فيه نظر.
ولعل بسط قصته من كلام محمد بن كعب القرظى، والله أعلم.
ثم قد رده ابن جرير نفسه، وقال: لا يجوز ان يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن، قال: لان الله أخبر عن أصحاب الرس أنه أهلكهم، وهؤلاء قد بدالهم فآمنوا بنبيهم.
اللهم إلا أن يكون حدثت لهم أحداث آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم.
والله أعلم.
ثم اختار أنهم اصحاب الاخدود وهو ضعيف، لما تقدم، ولما ذكر في قصة اصحاب الاخدود حيث توعدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا، ولم يذكر هلاكهم، وقد صرح بهلاك أصحاب الرس.
والله تعالى أعلم.
__________
(1) ا: وتحول.
(2) ا: إلا أنه نام ساعة.
(3) ليست في ا.
(4) ا: الحفرة (5) ا وكان (6) ا: وأهب (7) ا: نومه.
(8) ليست في ا (*)
قصة قوم يس وهم (1): أصحاب القرية أصحاب يس قال الله تعالى: " واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا، وما أنزل الرحمن من شئ، إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين * قالوا إنا تطيرنا بكم،
لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل انتم قوم مسرفون * وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * ومالى لا أعبد الذى فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة ؟ إن يردن الرحمن بضر لا تغنى عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إنى إذا لفى ضلال مبين * إنى آمنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال: يا ليت قوم يعلمون * بما غفر لى ربى وجعلني من المكرمين * وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون " (2).
اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية " أنطاكية "
__________
(1) ط: ومنهم.
تحريف (2) الآيات: 13 - 29 من سورة يس (*)
رواه ابن إسحق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب [ الاحبار (1) ] ووهب [ ابن منبه، وكذا روى عن بريدة بن الخصيب وعكرمة وقتادة والزهرى وغيرهم.
قال ابن إسحق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب (1) ] أنهم قالوا: وكان لها ملك اسمه أنطيخس بن أنطيخس وكان يعبد الاصنام.
فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم: صادق ومصدوق (2)، وشلوم، فكذبهم.
وهذا ظاهر أنهم رسل من الله عزوجل.
وزعم قتادة أنهم كانوا رسلا من المسيح.
وكذا قال ابن جرير، عن وهب، عن ابن سليمان، عن شعيب الجبائى: كان اسم المرسلين (3) الاولين: شمعون، ويوحنا، واسم الثالث بولس، والقرية أنطاكية.
وهذا القول ضعيف جدا ; لان أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت.
ولهذا كانت إحدى المدن الاربع التى تكون فيها بتاركة النصارى.
وهن: أنطاكية، والقدس، واسكندرية، ورومية.
ثم بعدها القسطنطنية ولم يهلكوا.
وأهل هذه القرية المذكورة (4) في القرآن أهلكوا، كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صديق المرسلين ": إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون " ولكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن، بعثوا إلى أهل أنطاكية قديما فكذبوهم وأهلكهم الله، ثم عمرت بعد ذلك، فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم، فلا يمنع هذا.
والله أعلم.
__________
(1) ليست في ا (2) ا: وصدوق.
(3) ا: الرسولين (4) ا: المذكورون.
(*)
فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة أصحاب المسيح فضعيف لما تقدم ; ولان ظاهر سياق القرآن يقتضى أن هؤلاء الرسل من عند الله.
* * * قال الله تعالى: " واضرب لهم مثلا " يعنى لقومك يا محمد " أصحاب القرية " يعنى المدينة " إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " أي أيدناهما بثالث (1) في الرسالة، " فقالوا إنا إليكم مرسلون "، فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم ; كما قالت الامم الكافرة لرسلهم، يستبعدون أن يبعث الله نبيا بشريا.
فأجابوهم بأن الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وانتقم منا أشد الانتقام.
" وما علينا إلا البلاغ المبين " أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم والله هو الذى يهدى من يشاء ويضل من يشاء " قالوا إنا تطيرنا بكم " أي تشاءمنا بما جئتمونا به، " لئن لم تنتهوا لنرجمنكم " [ قيل (2) ] بالمقال، وقيل بالفعال.
يؤيد الاول قوله: " وليمسنكم منا عذاب أليم " توعدوهم (3) بالقتل والاهانة.
" قالوا طائركم معكم " أي مردود عليكم " أإن ذكرتم ؟ " أي بسبب أنا ذكرناكم بالهدى ودعوناكم إليه، توعدتمونا بالقتل والاهانة ؟ " بل أنتم قوم مسرفون " أي لا تقبلون الحق ولا تريدونه.
وقوله تعالى: " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى " يعنى لنصرة
__________
(1) ا: بثالثهما.
(2) من ا.
(3) المطبوعة: فوعدوهم (*)
الرسل وإظهار الايمان بهم " قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون " أي يدعونكم (1) إلى الحق المحض بلا أجرة ولا جعالة.
ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن عبادة ما سواه مما لا ينفع شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة.
" إنى إذا لفى ضلال مبين " أي إن تركت عبادة الله وعبدت معه ما سواه.
ثم قال مخاطبا للرسل: " إن آمنت بربكم فاسمعون " قيل " فاستمعوا مقالتي واشهدوا لى بها عند ربكم، وقيل معناه: فاسمعوا يا قومي إيمانى برسل الله جهرة.
فعند ذلك قتلوه، قيل رجما، وقيل عضا، وقيل وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه.
وحكى ابن إسحق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال: وطئوه بأرجلهم، حتى أخرجوا قصبته.
وقد روى الثوري عن عاصم الاحول، عن أبى مجلز: كان اسم هذا الرجل " حبيب بن مرى " ثم قيل: كان نجارا، وقيل حباكا (2)، وقيل إسكافا، وقيل قصارا، وقيل كان يتعبد في غار هناك.
فالله أعلم.
وعن ابن عباس: كان حبيب البحار قد اسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة فقتله قومه، ولهذا قال تعالى.
" قيل ادخل الجنة " يعنى لما قتله قومه أدخله الله الجنة، فلما رأى فيها من النضرة والسرور " قال
__________
(1) المطبوعة: أي يدعونكم.
(2) ا: حبالا.
(*)
يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربى وجعلني من المكرمين " يعنى ليؤمنوا بما آمنت بما فيحصل لهم ما حصل لى.
قال ابن عباس: نصح قومه في حياته بقوله: " يا قوم اتبعوا المرسلين " وبعد مماته [ في قوله (1) ] " يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربى وجعلني من المكرمين " [ رواه ابن أبى حاتم.
وكذلك قال قتادة: لا يلقى المؤمن إلا ناصحا.
لا يلقى غاشا ; لما عاين ما عاين من كرامة الله.
" قال: يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لى ربى وجعلني من المكرمين (1) ] تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هو عليه ! قال قادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ".
وقوله تعالى: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " أي وما احتجنا في الانتقام منهم إلى إنزال جند من
السماء عليهم.
هذا معنى ما رواه ابن إسحق عن بعض أصحابه (2) عن ابن مسعود.
قال مجاهد وقتادة: وما أنزل عليهم جندا، أي رسالة [ أخرى (3) ].
قال ابن جرير: والاول أولى.
قلت: وأقوى، ولهذا قال: " وما كنا منزلين " أي وما كنا نحتاج (4)
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: أشياخه.
(3) ليست في ا.
(4) ا: محتاجين.
(*)
في الانتقام إلى هذا حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ".
قال المفسرون: بعث الله إليهم جبريل عليه السلام، فأخذ بعضادتى الباب الذى لبلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذاهم خامدون، أي قد أخمدت أصواتهم، وسكنت حركاتهم، ولم يبق منهم عين تطرف.
وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية ; لان هؤلاء [ أهلكوا (1) ] بتكذيبهم (2) رسل الله إليهم، وأهل أنطاكية آمنوا واتبعوا رسل المسيح من الحواريين إليهم.
فلهذا قيل إن أنطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح.
فأما الحديث الذى رواه الطبراني من حديث حسين الاشقر (3)، عن سفيان بن عيينة عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى يوشع ابن نون، والسابق إلى عيسى صاحب يس، والسابق إلى محمد على بن أبى طالب "، فإنه حديث لا يثبت ; لان حسينا هذا متروك شيعي من
الغلاة، وتفرده بهذا مما يدل على ضعفه بالكلية.
والله أعلم.
__________
(1) ليست في ا (2) ا بتكذيب.
(3) ا: الاصفر.
" م 25 - قصص الانبياء " (*) |